التجارة. وهذه التجارة لم تكن مثل نظيرتها في الشمال مجرد تجارة عبورية تعتمد على بقاء الخطوط التجارية وتختلّ إذا أصاب هذه الخطوط أي تغيير أو تعديل في مسارها, وإنما هي تجارة أصلية، الجزء الأكبر من مقوماتها "أو موادها الأولية" موجود في البلاد فعلًا، وإلى جانب كل من هذا فموقع هذه الممالك الموجود في جنوبي الجزيرة كان يجعلها بالضرورة على نقطة الانطلاق من بداية أية طريق برية نحو الشمال، كما كان موقعها عند ملتقى البحر الأحمر والمحيط الهندي يعطيها ميزة مضاعفة في مجال الخطوط التجارية، فالخطان البري والبحري موجودان, وإذا قوي أحدهما على حساب الآخر فإن هذا لا يدفع بها إلى خارج الصورة، وإنما تظل منتفعة في كل الأحوال١١. وقد كانت نتيجة كل ذلك أن بقيت هذه الممالك طوال العصر القديم. حقيقة إن واحدة منها قد تصل إلى مركز القوة على حساب الأخريات في بعض الأحيان, ولكن واحدة منها لم تندثر، كما حدث في بعض الإمارات والممالك الشمالية، كما كانت الحال مع مملكة الأنباط أو مملكة تدمر على سبيل المثال.
أما الصفة الثانية التي تميزت بها ممالك العربية الجنوبية فهي ما نلحظه بينها، رغم تعددها, من توافق أو ما يشبه التوافق، يقترب بها من التداخل بقدر ما يبتعد بها عن التناحر والتصارع الذي نجده في بعض إمارات الشمال مثل إمارة الغساسنة وإمارة اللخميين. ولعل مرجع هذا إلى التكاملالاقتصادي فيما بينها؛ فبعض المناطق تنتج نوعًا من الطيوب والتوابل وبعضها ينتج نوعًا آخر وكلها تصب عند بداية خط القوافل البري الذي يمر في مناطق حددتها التضاريس الطبيعية وجعلتها أنسب من غيرها، ومن ثَمَّ لم يكن هناك بديل لها. وهكذا كان لا بد من قدر من الاتفاق بين هذه الممالك جميعًا لا يمكن الاستغناء عنه، فكل منطقة تعتمد على الأخرى، هذه تنتج وتريد أن تسوِّق تجارتها وتلك تمر القوافل من أرضها وتستفيد مما تجنيه من ذلك من رسوم وأجور
١١ راجع الباب الثامن الخاص بالموارد الاقتصادية في هذه الدراسة.