الجزيرة العربية في العصور السابقة للإسلام فهو ظاهرة الارتباط الشديد بين التغييرات الاجتماعية والسياسية من جانب والتغييرات الدينية من جانب آخر، وقد ظهرت شدة هذا الارتباط في كثير من الأحيان في التصدي العنيف الذي كانت تلقاه أية محاولة للتغيير الديني. وليس هذا غريبًا في الواقع في مجتمعات العصر القديم التي كان الدين يقوم فيها بدور أساسي كقاعدة تقوم عليها الأوضاع الاجتماعية والسياسية "سواء في ذلك النظم السياسية أو حتى العلاقات السياسية الخارجية"، ومن هنا فقد كانت أية محاولة للتغيير في العقيدة الدينية معناها في الحقيقة محاولة للتغيير في واقع العلاقات الاجتماعية وما تقوم عليه من علاقات الإنتاج وما تؤدي إليه من نظم سياسية تبلور هذه العلاقات وتعطيها شرعيتها اللازمة لاستقرارها, كما كانت تؤثر كذلك في العلاقات السياسية الخارجية في مجتمع دولي يشتد فيه التوتر والصراع بين القوى الكبرى المتصارعة التي كانت بدورها ترى في الدين عامل اقتراب وتوافق أو عامل ابتعاد وتصادم حسب الظرف المطروح.
وقد مر بنا في هذا الصدد العنيف الذي تعرض له أصحاب الدعوات الدينية في أقوام عاد وثمود ومدين وسبأ. وقد رأينا في هذه الدعوات أن كلًّا من هذه الدعوات كانت تستقطب طبقة من المجتمع الذي ظهرت فيه هي طبقة المستضعفين على حد وصف القرآن الكريم لها في مواجهة طبقة أخرى من المتسلطين الذين كانوا يملكون موارد الثروة في المجتمع. كما رأينا الجدل العنيف الذي كان يقوم بين الطرفين حول الدعوة الدينية التي كان يبشر بها هؤلاء الرسل والأنبياء والتي يبدو واضحًا من سياق وصفها ووصف الجدل الذي أثارته بين طبقتي المجتمع أنها كانت تستهدف تعديل النظام الاجتماعي وإحداث تغيير في توزيع موارد الثروة أو النظم التي كانت تحكم الانتفاع بهذه الموارد بصورة أو بأخرى٥٦.
٥٦ راجع الباب السادس من هذه الدراسة، صفحات ١٧٢-١٧٣ وحاشية ١٧ في الباب ذاته.