الذي أريد أن أقدمه في مسألة الشعوب الناطقة باللغات السامية, إن الناظر إلى المنطقة التي استقرت فيها هذه الشعوب يجد أنها تشكل امتدادًا واحدًا متكاملًا, يضم شبه الجزيرة العربية ووادي الرافدين والصحراء السورية والمنطقة السورية، وحتى منطقة الحبشة التي تقع عبر البحر الأحمر لا يمكن اعتبارها في الحقيقة خارجة عن هذا الامتداد إذا أدخلنا في اعتبارنا أن الذي يفصل بينها وبين شبه الجزيرة العربية هو المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، وهو مدخل ضيق مليء بالجزر التي تشكل اتصالا بين الحبشة والطرف الجنوبي الغربي لشبه جزيرة العرب أكثر مما يشكل انفصالا بينهما. ومن الثابت جغرافيا أن هذه المنطقة كانت قبل نهاية عصر البلايستوسين "حوالي ١٠٠٠ ق. م" منطقة خضراء آهلة بالسكان, ولنا أن نتصور أن هؤلاء السكان -بحكم تجاورهم وانتمائهم إلى منطقة واحدة- كانوا يتحدثون بلغات متقاربة أو بلهجات متقاربة من لغة واحدة.
ومن الثابت جغرافيا كذلك أن عصر الجفاف قد حل بهذه المنطقة "كما حل بامتداداتها في الشرق إلى نهر الإندوس في الهند, وفي الغرب إلى شواطئ المحيط الأطلسي" بحيث أدى الجفاف المستمر إلى إقفار المنطقة وتحولها إلى صحراء فيما عدا بعض المناطق التي سمحت ظروفها الجغرافية ببقاء الخضرة والخصوبة لسبب أو لآخر -مثل وادي الرافدين الذي كان فيه نهرَا دجلة والفرات قد نحتا مجراهما فتكون الوادي الخصب بينهما وأصبحا مصدرا لري هذا الوادي، ومثل بعض المناطق الأخرى في جنوب غربي شبه الجزيرة وعلى الساحل السوري وفي الحبشة, حيث تقوم المرتفعات بصد الرياح المحملة بالأمطار القليلة أو الكثيرة فتسقط هذه الأمطار على قلتها أو كثرتها في هذه المناطق لتعطيها نسبا متفاوتة من الخصوبة. ونتيجة لذلك فإن سكان المناطق التي استطاعت أن تتفادى نتائج الجفاف وتبقى على شيء من الخصوبة ظلوا مستقرين في مناطقهم الأصلية ومارسوا حياة الاستقرار بكثافات مختلفة