شبيبته, وكهولته صوارم الاجتهاد وشحذ مداه, حتى طبق مفصل الحمل وأدرك من العلم غايته وبلغ مداه. فقيد بخطه من العلم شوادر, وثقفها حتى حمد الغادي والرائح مصادره وموارده, فرأس بعد ما درس, وأحيى بمعرفته ما ذهب من العلم ودرس. وقد عول عليه في حفظ المتون والنصوص, فهو فذ على العموم والخصوص. وأما طرق الحديث ومعرفة رجاله, فليس أحد يتصرف فيها تصرفه ولا يجول كمجاله. قد أتقن ذلك الباب وأحكم طرائقه, وتربى بمحاسن جمةٍ وآدابٍ رائقة.
وكان رحمه الله في أول أمره يعقد الوثائق بمالقة. وكان مع ذلك لا يفتر عن الدرس والنظر. ويحكي عنه أنه كان أيام الفتنة بمالقة ربما طلب بالمبيت في السور ولم يزل على اجتهاده وهو إمام يرحل إليه حتى توفي رحمه الله. وكان (قد) وظف على نفسه وظائف من الكتب التي كان يحفظ. يستظهرها حتى يختمها. وحدثني الطبيب أبو محمد الفاخر, وهو قريبه, قال: سافرت مع خالي أبي عبد الله من مالقة إلى مراكش حين استدعي إليها, وكان ذلك في فصل الشتاء, وصادفنا الأمطار والأوحال, فكان مع ذلك لا يفتر عن القراءة ليلاً ولا نهاراً, مستظهراً من حفظه. وسمعته ليلاً وقد ختم ودعا, فتوهمت أنه ختم القرآن, فكلمته في ذلك, فقال: ختمت كتاب الموطأ ولد رحمه الله في التاسع من رجب عام أحد عشر وخمسمائة. واستدعاه أمير المؤمنين المنصور أبو يوسف إلى حضرة مراكش في عام ثمانين وخمسمائة.
حدث رحمه الله عن الأستاذ أبي مروان بن محمد, وعن الفقيه الخطيب أبي محمد عبد الغفور, وعن الفقيه الزاهد أبي عبد الله بن معمر, وعن أبي مروان بن مسرة, وعن الإمام أبي بكر بن العربي, وعن الشريف أبي عبد الله القرشي