للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كثرت المناظرات وتوفرت السنة النبوية بسبب جمعها وتمحيصها، وأصبح من المتفق عليه أنه لا يحل ترك هذه السنة والعمل بالقياس أو بالرأي أو بعمل بعض التابعين من أهل المدينة أو غيرهم. كما أصبح من المُسَلَّمِ بِهِ أَيْضًا أن الرأي أو الاجتهاد طريق لاستنباط الحكم الشرعي عند عدم وجود الحكم في القرآن أو في السنة النبوية.

غير أنه في نهاية القرن الرابع الهجري انتشرت المذاهب الجماعية واستقرت وانتسب كل فقيه إلى مذهب بعينه لا يتعداه حتى سمي هذا العصر بعصر التقليد، بل أطلق عليه في المرحلة الأخيرة منه اسم عصر الجمود، وأشيع أن باب الاجتهاد قد أغلق حتى أصبح قول إمام المذهب كالنص الشرعي فلا يجوز مخالفته.

وهذا يخالف ما كان عليه صحابة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وما ظل عليه السلف الصالح حتى القرن الرابع الهجري، فكان المسلم لا يقلد مذهبًا بعينه إذ يأخذ عن العالم الثقة بغير اعتبار لمذهبه، بل كان أئمة المذاهب الجماعية يرفضون هذا التقليد. وعندما أراد الخليفة جمع الناس على رأي واحد في الفقه طلب من الإمام مالك أن يضع كتابًا يتجنب فيه رخص ابن عباس وتشدد ابن عمر وشواذ ابن مسعود ويوطئه للناس توطيئًا.

غير أن الإمام مالك عندما فرغ من وضع الكتاب وسماه " الموطأ " رفض أن يلزم المسلمين به وقال: «يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ لاَ تفعل هَذَا، فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ سَبَقَتْ [إِلَيْهِمْ] أَقَاوِيلَ، وَسَمِعُوا أَحَادِيثَ وَرَوَوْا رِوَايَاتٍ، وَأَخَذَ كُلُّ قَوْمٍ مِنْهُمْ بِمَا سَبَقَ [إِلَيْهِمْ] ... ».

وفي هذا أيضًا روى ابن حزم بسنده أن الإمام مالك قال: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أُخْطىءُ وَأُصِيبُ، فَانْظُرُوا فِي رَأْيِي فَكُلُّ مَا وَافَقَ الكِتَابَ وَالسُنَّةَ فَخُذُوا بِهِ، وَكُلُّ مَا لَمْ يُوَافِقْ الكِتَابَ وَالسُنَّةَ فَاتْرُكُوهُ».

<<  <   >  >>