وقد بين الرازي تنوع الناس، وذكر أنهم بالنسبة لكمال الطبع طرفان وواسطة.
فالطائفة الأولى التي تتجه إليها الحكمة هي طرف الكمال.
والطائفة الثالثة المجادلة هي طرف النقصان.
والطائفة الثانية صاحبة الموعظة هي الواسطة، وهم الذين لم يبلغوا في الكمال إلى حد الحكماء المحققين، كما لم يبلغوا في النقصان والرذالة إلى حد المشاغبين المخاصمين، بل هم أقوام بقوا على الفطرة الأصلية والسلامة الخلقية، ويقول: إن معنى الآية: ادعُ الأقوياء الكاملين إلى الدين بالحكمة، وهي البراهين القطعية اليقينية، وعوام الخلق بالموعظة الحسنة، وهي الدلائل اليقينية الإقناعية، والتكلم مع المشاغبين بالجدل على الطريق الأحسن الأكمل١.
وتقسيم الناس إلى هذه الطوائف الثلاث تقسيم يتفق مع الواقع البشري؛ لأن من الناس من يريد التعمق ويكره السطحية، ولا يهدأ له بال إلا باليقين الحقيقي القائم على الفكر والتدبر، ومنهم من يستهويه موضوع مثير، وفطرة طيبة، فيقف أمام اللفظة الجميلة، والمثل النادر، والقصة الشيقة، والتكرار المؤكد، ويسهر لمنظر بائس ورؤية مسكين، ومنهم من يَهْوَى اللحج ويعشقه، وينازع ويجادل.
لكن ليس معنى هذا التقسيم أن كل طائفة تغاير الأخرى تماما، وتتمايز تمايزا كليا؛ إذ من الناس من يجمع في طبعه أكثر من صفة؛ ولذا كان تنوع الأسلوب ضرورة لمخاطبة كافة الناس، ولإرضاء كافة عناصر الإنسان.
جاء في الظلال: والدعوة بالحكمة تراعي أحوال المخاطبين وظروفهم، والقدر المختار في كل مرة حتى لا يثقل عليهم، ولا يشق عليهم بالتكاليف قبل استعداد النفوس لها، والطريقة التي يخاطبهم بها، والتنوع في هذه الطريقة حسب مقتضياتها.