للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لا تستسلم له، بل تعمد إلى الاستيثاق من الأمر فتسأله: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} ؟

وعندما يقضي أمر الله وتحمل استجابة بقضائه، وترحل بعيدا عن قومها تنتابها الهواجس، وتتداعى عليها الهموم، كيف ستواجه قومها، وهم أهل عبادة وطهر وغيرة على الشرف والعرض؟

وكيف ستفسر لهم ما حدث؟

ثم يضاف إلى آلامها النفسية آلام جسدية مما يصاحب الوضع فتخور مقاومتها، وتهن عزيمتها، ولنستمع إلى القرآن يعبر عن ذلك بقوله على لسانها: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} .

ولكن تطورا مفاجئا يبدل كل شيء، وينهي أزمتها، ويبرئ جراحها المادية والمعنوية، فترى من آيات الله ما يرد إليها يقينها، ويملؤها ثقة تواجه بها العالم، وتتحدى الدنيا، فإذا بها تعود غير مكترثة لشيء تحمل ابنها في اعتزاز وفخر، مؤمنة بأن الله الذي رأت فضله وقدرته لن يتخلى عنها مصدقة بوعده، ملتزمة بأمره، وعندما تبدأ محاكمتها أمام قومها بالسخرية اللاذعة، والتوبيخ المهين، لا يحرك ذلك ساكنا فيها، ولا تهتز ثقتها في الله، ولا تزيد عن أن تشير إلى ابنها {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} إنه الاطمئنان القلبي لنصر الله ورعايته.

ولكن قومها معذورون، فهي تحدثهم بما لم يعهدوه، فلا تقنعهم إجابتها، بل يرون فيها تهكما بهم، واحتقارا لهم، فيردون عليها وهم في ذروة انفعالهم منكرين ذلك عليها: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} ؟!.

تلك قدرة التصوير على إبراز المشاعر والتعبير عن أعمق الانفعالات تجعلنا نشارك أبطال القصة مشاعرهم، فنحس نحو مريم بالإشفاق عليها، والتعاطف معها في

<<  <   >  >>