وهذا استعداد مخالف لطبيعة الفرد، لا يقدر عليه الإنسان إلا إذا كان جزءا من جماعة.
لهذا كان فهم المدعو من أسياسات تكوين الدعاة؛ ليتخيروا المنهج الذي يتبعونه حين الدعوة؛ لأن أملهم النجاح، وتحقيق ما يرجون من غايات.
ولعل الحادثة التالية أوضح دلالة على ما نحن بصدده من تأثير الجماعة، فصاحبها اتخذ موقفا من الدعوة، وكادت تصل إلى أعماقه، ويستسلم لها عندما احتكم إلى طبيعته الخاصة، لكنه لحظه العاثر قدر له أن يضع نفسه مرة أخرى في غمار الجماعة، ويقع تحت تأثيرها، ذلكم هو الوليد بن المغيرة؛ فقد روت كتب السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قام في المسجد يصلي، والوليد قريب منه يسمع قراءته، فلما فطن النبي صلى الله عليه وسلم لاستماعه، أعاد قراءة الآية، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه من بني مخزوم فقال:"والله لقد سمعت من محمد صلى الله عليه وسلم آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يُعلى عليه"، ثم انصرف إلى منزله، فقالت قريش: صبأ والله الوليد، ولتصبأن قريش كلها، فأوفدوا إليه أبا جهل يحتال لصرفه عن الإسلام إن كان قد نوى الدخول فيه، وما زال به حتى قام معه إلى مجلس قومه، فقال لهم: تزعمون أن محمدا صلى الله عليه وسلم مجنون، فهل رأيتموه يحنق قط؟
تزعمون أنه كاهن، فهل رأيتموه قط يتكهن؟
تزعمون أنه شاعر وما فيكم أعلم بالشعر مني، فهل رأيتموه ينطق بالشعر قط؟
تزعمون أنه كذاب، فهل جربتم عليه كذبا؟
يسألهم ويجيبونه: كلا، في كل سؤال، حتى أعياهم أن يردوا كلامه، فقال أبو جهل: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه.
فقال: دعني حتى أتفكر.
ثم قال: ما هو إلا سحر يؤثر، أَمَا رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه؟ فهو ساحر، وهذا هو السحر المبين.