للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وليس من العزة أن يظلم الإنسان غيره، أو يطغى عليه؛ لأن العزة خلق ممتاز يتمتع بها من يحافظ عليها لنفسه ولغيره، انطلاقا من فهمه لذاته ولدينه وللحياة.

ومن مستلزمات هذه العزة أن يكون صاحبها شجاعا قويا في شخصه ورأيه؛ لتكون خيرة في ذاتها ومقبولة من كافة العقول.

وقد أراد القرآن الكريم أن يبسط هذا المعنى في الأسماع والعقول فحفل به وأكثر من وصف الله بالقوة؛ ليكون ذلك إيماء إلى المؤمنين بأن يكونوا أقوياء، وكذلك وصف بالقوة جبريل ورسله والمؤمنين حتى يتضح شرف القوة ورفعتها.

ومن القوة المطلوبة أن يملك الداعية القدرة على ضبط نفسه والسيطرة عليها، بل إن ذلك هو كل القوة في الواقع؛ لأن النفس خيرا وشرا تتنوع بحسب قواها، وأحسن الناس من يحكم شهوته وغضبه، فيعطي لنفسه العاقلة زمام أمره، ويتصرف بعيدا عن أي انفعال يفسد عليه وجهته مهما كان حقا.

يقول ابن مسكويه*: "شبه القدماء الإنسان وحاله مع الأنفس الثلاثة بإنسان راكب دابة قوية، ويقود كلبا، فإن كان الإنسان من بينهم هو الذي يروض دابته وكلبه، فلا شك في رغد عيشه وحسن أحواله، وإن كانت البهيمة أو السبعية هي الغالبة ساءت الثلاثة"١؛ ولذلك كنت وصية النبي صلى الله عليه وسلم للصحابي الذي سأله النصيحة: "لا تغضب" ٢؛ ليكون قويا بحق، فـ "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب" ٣.

ومن هنا يقول ابن المبارك أن المقصود من قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} هو جهاد النفس٤؛ ولذلك فالعزيز هو الذي يحكم نفسه ولا يجعلها


* يرى ابن مسكويه أن النفس الإنسانية لها ثلاث قوى أي هي أنواع ثلاثة بهيمية "شهوية" وغضبية "سبعية" وناطقة "عاقل" وكل منها له قوته وتحاول التغلب على أختيها، ويرى أن النفس الغضبية تترقى لأنها تقبل الأدب، والبهيمية تحكم فقط لأنها لا تقبله، والإنسان يشرف بالناطقة فقط ويشارك الملائكة ويباين البهائم.
١ تهذيب الأخلاق لابن مسكويه ص٥٥.
٢ موطأ مالك ج٤ ص٩٤ - ما جاء في الغضب.
٣ موطأ مالك ج٤ ص٩٥ - ما جاء في الغضب.
٤ ذم الهوى ص٤٠.

<<  <   >  >>