للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومنهم من قال: تدرع اللاهوت بالناسوت، ومنهم من قال: مازجت الكلمة جسد المسيح ممازجة اللبن الماء، والماء اللبن"١.

فهذه الأدلة مع ما فيها تدل على تقدم فكري معين، ويكفي أنها من أنصار التعصب المسيحي الذين آمنوا بألوهية المسيح، وحاولوا جعل هذه الألوهية فكرة مستساغة أمام العقل، فأتوا بهذه التشبيهات ليقربوا فكرة اتحاد الألوهية مع الإنسانية.

ولو تركنا عالم المسيحية إلى غيرها لوجدنا أن الهنود قد أيدوا ثورة "بوذا" على الهندوكية في بعض تعالميمها، ومحاولتها تبسيط العقائد، والاهتمام بالأخلاق والعودة إلى الفطرة، كما أن الهنود قبيل مجيء الدعوة الإسلامية كانوا يتجهون لواحد من الآلهة، ويخصونه باسم: "رب الأرباب" و"إله الآلهة"٢، وهذا نوع من التوحيد لم يعهده الهنود من قبل، فلقد كانوا دائمًا يعددون الآلهة، ويقدسون كثيرًا من مظاهر الطبيعة، بلا التفات إلى حقيقتها، أو فهم لمعنى عبادتهم لها، إلا أنهم في هذا العصر بسبب النضوج تمكنوا من تخطي الردة العقلية، والقرب من توحيد الآلهة.

وفي الجزيرة العربية وعلى الرغم من تعمق القوم في تقديس الأصنام، وتعظيم الحجر، فإن النضج الذي اتسم به العصر بدأ يظهر في العرب؛ إذ اتجهوا بعقولهم إلى حياتهم ينظرون فيها، ويضعون لها نظامًا يكفل الأمن والسلام، ويقلل الصراع والشرور؛ ولذلك نظموا نشاطهم خلال السنة فأحاطوا بفصولها، ونظموا التجارة على وفق هذه الفصول، وأقاموا أسواقًا تدور مع أيام السنة، وفي جميع أماكن الجزيرة، وحتى يحققوا أكبر فائدة من هذه الأسواق جعلوها مكانًا للكسب المادي، وتقوية للشعور القومي، وللتسابق اللغوي والأدبي، وكأنها مؤتمرات تمهد لوحدة مقبلة.

وظهرت دقة تنظيم هذه الأسواق في اختيار الأمكنة والأزمنة، فعن الأمكنة وزعوها في ملتقى جميع أبناء الجزيرة، وعن الأزمنة جعلوها في الأشهر الحرم، وبهذه


١ الملل والنحل ج١ ص٢٠١.
٢ ملامح الهند والباكستان ص١٤٣.

<<  <   >  >>