فلو أنه قال أنت أم سالم على نفي الشك بل لو قال " أنت أحسن من الظبية " لما حل من القلوب محل التشكك. وكما قال جرير:
فإنك لو رأيت عبيد نسيمٍ ... وتيماً قلت: أيهم العبيد
فلو قال " عبيدهم " أو " خير منهم " لما ظن به الصدق، فاحتال في تقريب المشابهة؛ لأن في قربها لطافة تقع في القلوب وتدعو إلى التصديق.
وكذلك قول أبي النجم يصف عرق الخيل:
كأنه من عرقٍ يسربله ... ككرسف النداف لولا بلله
فإنه لو قال " إنه الكرسف " لم يكن في حسن هذا؛ لأنه يشهد بتقارب الشبهين إلى أن وقع في الشك.. والمبالغة في صناعة الشعر كالاستراحة من الشاعر إذا أعياه إيراد معنى حسن بالغ فيشغل الأسماع بما هو محال، ويهول مع ذلك على السامعين، وإنما يقصدها من ليس بمتمكن من محاسن الكلام أن تمكنه، ولا يتعذر عليه، وتنجذب كلما أرادها إليه، انقضى كلامه.
وفيه كفاية وبلاغ، إلا أنه فيما يظهر من فحواه لم يرد إلا ما كان فيه بعد، وليس كل مبالغة كذلك، ألا ترى أن التتميم إذا طلبت حقيقته كان ضرباً من المبالغة وإن ظهر أنه من أنواع الحشو المستحسن، وقد مر ذكره. وكذلك ما ناسب قول ابن المعتز يصف خيلاً:
صببنا عليها ظالمين سياطنا ... وطارت بها أيدٍ سراع وأرجل
وهذا عند جميع الناس من باب الحشو، وهو عندي مبالغة، وكذلك الإيغال، وسيرد في بابه إن شاء الله.