لم يبق غير العذل من أسبابهم ... فأحب من يدنو إلي عذول
يغدو فر مستخبر عن حالهم ... غيري، ولا مستخبر مسئول
[باب التصرف ونقد الشعر]
يجب للشاعر أن يكون متصرفاً في أنواع الشعر: من جد وهزل، وحلو وجزل، وأن لا يكون في النسيب أبرع منه في الرثاء، ولا في المديح أنفذ منه في الهجاء، ولا في الافتخار أبلغ منه في الاعتذار، ولا في واحد مما ذكرت أبعد منه صوتاً في سائرها؛ فإنه متى كان كذلك حكم له بالتقدم، وحاز قصب السبق، كما حازها بشار بن برد، وأبو نواس بعده.
حكى الصاحب بن عبادة في صدر رسالة صنعها على أبي الطيب، قال: حدثني محمد بن يوسف الحمادي، قال: حضرت بمجلس عبيد الله بن عبد الله بن طاهر وقد حضره البحتري، فقال: يا أبا عبادة، أمسلم أشعر أم أبو نواس؟ فقال: بل أبو نواس؛ لأنه يتصرف في كل طريق، ويبرع في كل مذهب: إن شاء جد، وإن شاء هزل، ومسلم، ومسلم يلزم طريقاً واحداً لا يتعداه، ولا يتحقق بمذهب لا يتخطاه فقال له عبيد الله: إن أحمد بن يحيى ثعلباً لا يوافقك على هذا، فقال: أيها الأمير، ليس هذا من علم ثعلب وأضرابه ممن يحفظ الشعر ولا يقوله؛ فإنما يعرف الشعر من دفع إلى مضايقه، فقال: وريت بك زنادي يا أبا عبادة، إن حكمك في عميك أبي نواس ومسلم وافق حكم أبي نواس في عميه جرير والفرزدق؛ فإنه سئل عنهما ففضل جريراً، فقيل: إن أبا عبادة لا يوافقك على هذا، فقال: ليس هذا من علم أبي عبيدة؛ فإنما يعرفه من دفع إلى مضايق الشعر، وقد خالف البحتري أبا نواس في الحكم بين جرير والفرزدق، فقدم الفرزدق، قيل له: كيف تقدمه وجرير أشبه طبعاً بك منه؟ فقال: إنما يزعم هذا من لا علم له بالشعر، جرير