وهي ضروب كثيرة. والناس فيها مختلفون: منهم من يؤثرها، ويقول بتفضيلها، ويراها الغاية القصوى في الجودة، وذلك مشهور من مذهب نابغة بني ذبيان، وهو القائل: أشعر الناس من استجيد كذبه، وضحك من رديئه، هكذا أعرفه، ورأيت بخط جماعة منهم عبد الكريم والباغي من استجيد جيده ومطابقه وضحك من رديئه. وروى قوم من حديث النابغة ومطالبته حسان ابن ثابت بالمبالغة ونسبته إياه إلى التقصير في قوله:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ما هو مشهور عندهم مشهور في كتبهم، ومنهم من يعيبها وينكرها، ويراها عيباً وهجنة في الكلام، قال بعض الحذاق بنقد الشعر: المبالغة ربما أحالت المعنى، ولبسته على السامع؛ فليست لذلك من أحسن الكلام ولا أفخره، لأنها لا تقع موقع القبول كما يقع الاقتصاد وما قاربه؛ لأنه ينبغي أن يكون من أهم أغراض الشاعر والمتكلم أيضاً الإبانة والإفصاح، وتقريب المعنى على السامع؛ فإن العرب إنما فضلت بالبيان والفصاحة، وحلا منطقها في الصدور وقبلته النفوس لأساليب حسنة، وإشارات لطيفة، تكسبه بياناً وتصوره في القلوب تصويراً، ولو كان الشعر هو المبالغة لكانت الحاضرة والمحدثون أشعر من القدماء، وقد رأيناهم احتالوا للكلام حتى قربوه من فهم السامع بالاستعارات والمجازات التي استعملوها، وبالتشكك في الشبهين، كما قال ذو الرمة:
فيا ظبية الوعساء بين جلاجل ... وبين النقا أنت أم أم سالم