لاتساع الظن في التعريض، وشدة تعلق النفس به، والبحث عن معرفته، وطلب حقيقته، فإذا كان الهجاء تصريحاً أحاطت به النفس علماً، وقبلته يقيناً في أول وهلة، فكان كل يوم في نقصان لنسيان أو ملل يعرض، هذا هو المذهب الصحيح، على أن يكون المهجو ذا قدر في نفسه وحسبه؛ فأما إن كان لا يوقظه التلويح، ولا يؤلمه إلا التصريح؛ فذلك، ولهذه العلة اختلف هجاء أبي نواس، وكذلك هجاء أبي الطيب فيه اختلاف؛ لاختلاف مراتب المهجوين.
فمن التفضيل في الهجاء قول ربيعة بن عبد الرحمن الرقي:
لشتان ما بين اليزيدين في الندى ... يزيد سليم والأغر ابن حاتم
فهم الفتى الأزدي إتلاف ماله ... وهم الفتى القيسي جمع الدراهم
فلا يحسب التمتام أني هجوته ... ولكنني فضلت أهل المكارم
ومن الاستحقار والاستخفاف قول زياد الأعجم:
فقم صاغراً يا شيخ جرم فإنما ... يقال لشيخ الصدق: قم غير صاغر
فمن أنتم؟ إنا نسينا من أنتم ... وريحكم من أي ريح الأعاصر؟!!
أأنتم أولى جئتم مع النمل والدبا ... فطار، وهذا شيخكم غير طائر
قضى الله خلق الناس ثم خلقتم ... بقية خلق الله آخر آخر
فلم تسمعوا إلا بمن كان قبلكم ... ولم تدركوا إلا مدق الحوافر
وأخذ الطرماح منه هذا المعنى فقال:
وما خلقت تيم وعبد مناتها ... وضبة إلا بعد خلق القبائل
ومن الاحتقار أيضاً قول جرير في التيم:
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ... ولا يستأذنون وهم شهود
فإنك لو رأيت عبيد تيم ... وتيماً قلت: أيهم العبيد؟