اللحون عند الفلاسفة أعظم أركان العمل الذي هو أحد قسمي الفلسفة وجدنا الشعر أقدم من لحنه لا محالة، فكان أعظم من الذي هو أعظم أركان الفلسفة، والفلسفة عندهم علم وعمل. هذا معنى الكلام المنقول عنه مختصراً وليس نصاً.
فإن قيل في الشعر: إنه سبب التكفف، وأخذ الأعراض، وما أشبه ذلك؛ لم يلحقه من ذلك إلا ما يلحق المنثور.
ومن فضائله أن اليونانيين إنما كانت أشعارهم تقييد العلوم والأشياء النفيسة والطبيعية التي يخشى ذهابها، فكيف ظنك بالعرب الذي هو فخرها العظيم وقسطاسها المستقيم؟ وزعم صاحب الموسيقى أن ألذ الملاذ كلها اللحن، ونحن نعلم أن الأوزان قواعد الألحان، والأشعار معايير الأوتار لا محالة، مع أن صنعة صاحب الألحان واضعة من قدره، مستخدمة له، نازلة به، مسقطة لمروءته، ورتبة الشاعر لا مهانة فيها عليه، بل تكسبه مهابة العلم، وتكسوه جلالة الحكمة.
فأما قيامه وجلوس اللحون فلأن هذا متشوف إليه، يحب إسماع من بحضرته أجمعين، بغير آلة ولا معين، ولا يمكنه ذلك إلا قائماً أو مشرفاً، وليدل على نفسه، ويعلم أنه المتكلم دون غيره، وكذلك الخطيب، وصاحب اللحون لا يمكنه القيام لما في حجره كرامة منه على القوم، على أن منهم من كان يقوم بالدف والمزهر.