وجه الإحداث والخلق، فإن الخلق يشعر باستقلال إيجاده من العدم، والإنسان كما يحس من نفسه الاقتداء، يحس من نفسه أيضا عدم الاستقلال، فالفعل يستند وجوده إلى القدرة، والقدرة يستند وجودها إلى سبب آخر تكون نسبة القدرة إلى ذلك السبب كنسبة الفعل إلى القدرة، وكذلك يستند سبب إلى سبب آخر حتى ينتهي إلى مسبب الأسباب. فهو الخالق للأسباب ومسبباتها، المستغنى على الإطلاق، فإن كان سبب مهما استغنى من وجه محتاج من وجه، والباري تعالى هو الغني المطلق، الذي لا حجاة له ولا فقر.
وهذا الرأي إنما أخذه من الحكماء الإلهيين وأبرزه في معرض الكلام. وليس يختص نسبة السبب إلى المسبب على أصله بالفعل والقدرة، بل كل ما يوجد من الحوادث فذلك حكمه، وحينئذ يلزم القول بالطبع، وتأثير الأجسام في الأجسام إيجادا، وتأثير الطبائع في الطبائع إحداثا، وليس ذلك مذهب الإسلاميين. كيف ورأى المحققين من الحكماء أن الجسم لا يؤثر في إيجاد الجسم، قالوا: لا يجوز أن يصدر عن جسم، ولا عن قوة ما في جسم، فإن الجسم مركب من مادة وصورة، فلو أثر لأثر بجهتيه، أعني بمادته وصورته. والمادة لها طبيعة عدمية، فلو أثرت لأثرت بمشاركة العدم، والتالي محال. فالمقدم إذن محال فنقيضه حق؛ وهو أن الجسم وقوة ما في الجسم لا يجوز أن يؤثر في جسم.
وتخطي من هو أشد تحققا وأغوص تفكرا، عن الجسم وقوة ما في الجسم، إلى كل ما هو جائز بذاته، فقال: كل ما هو جائز بذاته لا يجوز أن يحدث شيئا ما، فإنه لو أحدث لأحدث بمشاركة الجواز، والجواز له طبيعة عدمية. فلو خلى الجائز وذاته كان عدما. فلو أثر الجواز بمشاركة العدم، لأدى إلى أن يؤثر العدم في الوجود، وذلك محال؛ فإذ لا موجد على الحقيقة إلا واجب الوجود لذاته، وما سواه من الأسباب معدات لقبول الوجود، لا محدثات لحقيقة الوجود، ولهذا شرح سنذكره.
ومن العجب أن مأخذ كلام الإمام أبي المعالي إذا كان بهذه المثابة، فكيف يمكن إضافة الفعل إلى الأسباب حقيقة؟