قالت الحنفاء: لقد ناقضتم وضع مذهبكم. فإن غرضكم في ترجيح الروحاني على الجسماني: نفي متوسط البشري، فصار نفيكم إثباتا. وعاد إنكاركم إقرارا.
ثم من الذي يسلم أن المبدع لا من شيء أشرف من المخترع من شيء؟ بل وجانب الروحاني أمر واحد. وجانب الجسماني أمران:
أحدهما: نفسه وروحه.
والثاني: حسه وجسده، فهو من حيث الروح مبدع بأمر الله تعالى, ومن حيث الجسد مخترع بخلقه، ففيه أثران: أمري وخلقي: قولي, وفعلي فساوى الروحاني بجهة، وفضله بجهة، خصوصا إذا كانت جهته الخلقية ما نقصت الجهة الأخرى, بل كملت وطهرت.
وإنما الخطأ عرض لكم من وجهين:
أحدهما: أنكم فاضلتم بين الروحاني المجرد والجسماني المجرد، فحكمتم بأن الفضل للروحاني، وصدقتم. لكن المفاضلة بين الروحاني المجرد. والجسماني والروحاني المجتمع، ولا يحكم عاقل بأن الفضل للروحاني المجرد فإنه بطرف ساواه، وبطرف سبقه، والفرض فيما إذا لم يدنس بالمادة ولوازمها، ولم تؤثر فيه أحكام التضاد والازدواج، بل كان مستخدما لها بحيث لا تنازعه في شيء يريده ويرضاه، بل صارت معينات له على الغرض الذي لأجله حصل التركيب، وعطلت الوحدة والبساطة، وذلك تخليص النفوس التي تدنست بالمادة ولوازمها، وصارت العلائق عوائق.
وليت شعري: ماذا يشين اللباس الحسن الشخص الجميل؟ وكيف يزري اللفظ الرائق بالمعنى المستقيم؟ ونعم ما قيل:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداء يرتديه جميل
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها ... فليس إلى حسن الثناء سبيل
هذا كمن خاير بين اللفظ المجرد والمعنى المجرد: اختار المعنى، قيل له: لا، بل خاير