للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الجسمانيات انفعالية. وعلومهم فطرية، وعلوم الجسمانيات كسبية فمن هذه الوجوه تحقق لها الشرف على الجسمانيات.

وأما العمل فلا ينكر أيضا عكوفهم على العبادة، ودوامهم على الطاعة {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} ١ لا يلحقهم كلال ولا سآمة، ولا يرهقهم ملال ولا ندامة. فتحقق لها الشرف أيضا بهذا الطرف، وكان أمر الجسمانيات بالخلاف من ذلك.

أجابت الحنفاء عن هذا بجوابين:

أحدهما: التسوية بين الطرفين، وإثبات زيادة في جانب الأنبياء عليهم السلام. والثاني: بيان ثبوت الشرف في غير العلم والعمل.

أما الأول: فإنهم قالوا: علوم الأنبياء عليهم السلام كلية وجزئية، وفعلية وانفعالية، وفطرية وكسبية. فمن حيث تلاحظ عقولهم عالم الغيب -منصرفة عن عالم الشهادة تحصل لهم العلوم الكلية فطرة ودفعة واحدة، ثم إذا لاحظوا عالم الشهادة حصلت لهم العلوم الجزئية اكتسابا بالحواس على ترتيب وتدريج، فكما أن للإنسان علوما نظرية هي المعقولات، وعلوما حاصلة بالحواس عن المحسوسات، فعالم المعقولات بالنسبة إلى الأنبياء كعالم المحسوسات بالنسبة إلى سائر الناس، فنظرياتنا فطرية لهم، ونظرياتهم لا نصل إليها قط، بل ومحسوساتنا مكتسبة لهم، ولنا بكواسب الجوارح: جوارح الحواس. فأمزجه الأنبياء عليهم السلام أمزجة نفسانية، ونفوسهم نفوس عقلية، وعقولهم عقول أمرية. ولو وقع حجاب في بعض الأوقات فذاك لموافقتنا ومشاركتنا، كي تزكي هذه العقول وتصفي هذه الأذهان والنفوس، وإلا فدرجاتهم وراء ما يقدر.

وأما الثاني: فإنهم قالوا: من العجب أنهم لا يعجبون بهذه العلوم، بل ويؤثرون التسليم على البصيرة، والعجز على القدرة، والتبرؤ من الحول والقوة على الاستقلال، والفطرة على الاكتساب {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} ٢على {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} ٣.


١ فتر عن العمل فتورا من باب قعد -انكسرت حدته، ولان بعد شدته- الأنبياء آية ٢٠.
٢ الأحقاف آية ٩.
٣ القصص آية ٧٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>