وإنما يعرف مقادير العقول ومراتب النفوس الأنبياء والمرسلون الذين اطلعوا على الموجودات كلها روحانياتها وجسمانياتها، معقولاتها ومحسوساتها، كلياتها وجزئياتها، علوياتها وسفلياتها فعرفوا مقاديرها وعينوا موازينها ومعاييرها.
وكل ما ذكرناه من القوى الإنسانية فهي حاصلة لهم، مركبة فيهم، منصرفة كلها عن جانب الغرور إلى جانب القدس، مستديمة الشروق بنور الحق فيها، حتى كأن كل قوة من القوى الجسدانية والنفسانية ملك روحاني موكل بحفظ ما وجه إليه، واستتمام ما رشح له. بل ومجموع جسده ونفسه مجمع آثار العالمين من الروحانيات والجسمانيات، وزيادة أمرين أحدهما ما حصل له من فائدة التركيب والترتيب كما بينا من مثال السكر والخل. والثاني ما أشرق عليه من الأنوار القدسية وحيان وإهاما، ومناجاة، وإكراما.
فأين للروحاني هذه الدرجة الرفيعة، والمقام المحمود، والكمال الموجود؟
بل ومن أين للروحانيات كلها هذا التركيب الذي خص نوع الإنسان به؟
وما تعلقوا به من القوة البالغة على تحريك الأجسام، وتصريف الأجرام١، فليس يقتضي شرفا، فإن ما يثبت لشيء ويثبت لضده مثله لم يتضمن شرفا. ومن المعلوم أن الجن والشياطين قد ثبت لهم من القوة البالغة والقدرة الشاملة ما يعجز كثير من الموجودات عن ذلك، وليس ذلك مما يوجب شرفا وكمالا. وإنما الشرف في استعمال كل قوة فيما خلقت له، وأمرت به، وقدرت عليه.
قالت الصابئة:
الروحانيات لها اختيارات صادرة من الأمر. متوجهة إلى الخير، مقصورة على نظام العالم، وقوام الكل. لا يشوبها البتة شائبة الشر، وشائبة الفساد، بخلاف اختيار البشر، فإنه متردد بين طرفي الخير والشر لولا رحمة الله في حق البعض، وإلا فوضع