للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اختيارهم كان ينزع إلى جانب الشر والفساد، إذا كانت الشهوة والغضب المركوزتان فيهم يجرانهم إلى جانبهما. وأما الروحانيات فلا ينازع اختيارهم إلا التوجه إلى وجه الله تعالى، وطلب رضاه، وامتثال أمره، فلا جرم! كل اختيار هذا حاله لا يتعذر عليه ما يختاره، فكما أراد، واختار وجد المراد، وحصل المختار.

وكل اختيار ذلك حاله تعذر عليه ما يختاره، فلا يوجد المراد، ولا يحصل المختار.

أجابت الحنفاء بجوابين:

أحدهما: نيابة عن جنس البشر، والثاني: نيابة عن الأنبياء عليهم السلام.

أما الأول فنقول: اختيار الروحانيات إذا كان مقصورا على أحد الطرفين، محصورا: كان في وضعه مجبورا، ولا شرف في الجبر. واختيار البشر تردد بين طرفي الخير والشر، فمن جانب يرى آيات الرحمن، ومن طرف يسمع وساوس الشيطان، فتميل به تارة دعوة الحق إلى امتثال الأمر، وتميل به طورا داعية الشهوة إلى أتباع الهوى. فإذا أقر طوعا وطبعا بوحدانية الله تعالى، واختار من غير جبر وإكراه طاعته، وصير اختياره المتردد بين الطرفين مجبورا تحت أمره تعالى باختيار من جهته من غير إجبار: صار هذا الاختيار أفضل وأشرف من الاختيار المجبور فطرة. كالمكره فعله: كسبا، الممنوع عما لا يجب جبرا، ومن لا شهوة له فلا يميل إلى المشتهى، كيف يمدح عليه؟ وإنما المدح كل المدح لمن زين له المشتهى، فنهى النفس عن الهوى. فتبين أن اختيار البشر أفضل من اختيار الروحانيات.

وأما الثاني: فنقول: إن اختيار الأنبياء عليهم السلام مع ما أنه ليس من جنس اختيار البشر من وجه، فهو متوجه إلى الخير، مقصور على الصلاح الذي به نظام العالم وقوام الكل، صادر عن الأمر، صائر إلى الأمر، لا يتطاق إلى اختيارهم ميل إلى الفساد، بل ودرجتهم فوق ما يبتدر إلى الأوهام، فإن العالي لا يريد أمرا لأجل السافل, من حيث هو سافل, بل إنما يختار ما يختار لنظام كلي، وأمر أعلى من الجزئي.

<<  <  ج: ص:  >  >>