الاحتياج لما كان لازما لنوع الإنسان ضرورة، يجب أن يكون المحتاج إليه قائما ضرورة، بحيث تكون نسبته إليه نسبة الغني والفقير، والمعطي والسائل، والملك والرعية، فإن الناس لو كانوا كلهم ملوكا لم يكن ملك أصلا، كما لو كانوا كلهم رعايا لم تكن رعية أصلا. ثم لا يبقى ذلك الشخص ببقاء الزمان وعمره لا يساوي عمر العالم، فينوب منابه علماء أمته، ويرث علمه أمناء شريعته، فتبقى سنته ومنهاجه، ويضيء على البرية مدى الدهر سراجه. والعلم بالتوارث، وليست النبوة بالتوارث. والشريعة تركة الأنبياء، والعلماء ورثة الأنبياء.
قال الصابئة:
الناس متماثلة في حقيقة الإنسانية والبشرية، ويشملهم حد واحد، وهو الحيوان الناطق المائت. والنفوس والعقول متساوية في الجوهرية، فحد النفس بالمعنى الذي يشترك فيه الإنسان والحيوان والنبات أنه كمال جسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة، وبالمعنى الذي يشترك فيه الإنسان والملك أنه جوهر غير جسم هو كمال الجسم محرك له بالاختيار عن مبدأ نطقي أي عقلي, بالفعل أو بالقوة، فالذي بالفعل هو خاصة النفس الملكية، والذي بالقوة هو فصل النفس الإنسانية.
وأما العقل فقوة أو هيئة لهذه النفس, مستعدة لقبول ماهيات الأشياء مجردة عن المواد، والناس في ذلك على استواء من القدم، وإنما الاختلاف يرجع إلى أحد أمرين أحدهما اضطراري، وذلك من حيث المزاج المستعد لقبول النفس، والثاني اختياري، وذلك من حيث الاجتهاد المؤثر في رفع الحجب المادية، وتصقيل النفس عن الصدأة المانعة لارتسام الصور المعقولة حتى لو بلغ الاجتهاد إلى غاية الكمال تساوت الأقدام، وتشابهت الأحكام، فلا يتفضل بشر على بشر بالنبوة، ولا يتحكم أحد على أحد بالاستتباع.