هذا الإطلاق أن كل ما هو عندنا بالحس ها هنا, فهو بالعقل لنا هناك. إلا أن الذي عندنا ظل ذاك، ولأن من شاء الظل أنه كما يريك الشيء الذي هو ظله مرة فاضلا عما هو عليه، ومرة قالصا عما هو به، ومرة على قدره, عرض الحسبان والتوهم وصارا مزاحمين لليقين والتحقيق، فينبغي أن تكون عنايتنا بطلب البقاء الأبدي، والوجود السرمدي أتم، وأظهر، وأبقى، وأبلغ، فبالحق ما كان الغائب طي الشاهد، وبتصفح هذا الشاهد، يصح ذلك الغائب.
وقال الشيخ اليوناني: النفس جوهر كريم شريف، يشبه دائرة قد دارت على مركزها، غير أنها دائرة لا بعد لها، ومركزها هو العقل، وكذلك العقل هو كدائرة قد استدارت على مركزها، وهو الخير الأول المحض. غير أن النفس والعقل وإن كانا دائرتين، لكن دائرة العقل لا تتحرك أبدا، بل هي ساكنة ذاتية، شبيهة بمركزها، وأما دائرة النفس فإنها تتحرك على مركزها وهو العقل حركة الاستكمال. على أن دائرة العقل وإن كانت دائرة شبيهة بمركزها لكنها تتحرك حركة الاشتياق، لأنها تشتاق إلى مركزها وهو الخير الأول. وأما دائرة العالم السفلى فإنها تدور حول النفس وإليها تشتاق، وإنما تتحرك بهذه الحركة الذاتية شوقا إلى النفس كشوق النفس إلى العقل، وشوق العقل إلى الخير المحض الأول، ولأن دائرة هذا العالم جرم، والجرم يشتاق إلى الشيء الخارج منه، ويحرص على أن يصير إليه فيعانقه، فلذلك يتحرك الجرم الأقصى الشريف حركة مستديرة، لأنه يطلب النفس من جميع النواحي لينالها فيستريح إليها، ويسكن عندها.
وقال: ليس للمبدع الأول صورة ولا حلية مثل صور الأشياء العالية، ولا مثل صور الأشياء السافلة، ولا له قوة مثل قواها، لكنه فوق كل صورة، وحلية، وقوة، لأنه مبدعها بتوسط العقل.
وقال: المبدع الحق ليس شيئا من الأشياء، وهو جميع الأشياء، لأن الأشياء منه، وقد صدق الأفاضل الأوائل في قولهم: مالك الأشياء كلها, هو الأشياء كلها, إذ هو علة