ما رعى الدهر آل برمك لما ... [أن] رماهم بكل أمر فضيع
إن دهرا لم يرع حقا ليحيى ... غير راع حقّا لآل الربيع
ثم إن أمور الرشيد بعد البرامكة اضطربت وندم على ما فرط منه في أمرهم حيث لم تنفعه الندامة وقوى أمر بنى رافع الخوارج بخراسان واختلت أمور الحضرة وخلت بيوت الأموال. ثم إن الرشيد عوّل على قصد خراسان بنفسه، ولما صمّم عزمه على ذلك رأى في المنام «١٦٧» كأن يدا سوداء قد خرجت من تحت سريره وفيها كف تراب أحمر وكأن صاحب تلك الكف يقول له: يا هارون هذه التربة التي تدفن بها وهي بطوس. فارتاع من ذلك وأراد إبطال العزيمة وما تهيأ له ذلك لأنه ما كان يتم صلاح خراسان إلا بقصده لها بنفسه. فخرج على كره منه، فلما صار إلى حلوان مرض ووصف له الطبيب الجمار وكان على باب حلوان نخلتان متقاربتان فأمر بقطعهما وأكل جمّارهما. فدخلت إليه في ذلك اليوم جارية مغنية كان استصحبها معه فأمرها بالغناء فابتدرت تغني [٢٩ ب] :
أسعدانى يا نخلتى حلوان ... وابكيا لي من صرف هذا الزمان
واعلما ما بقيتما أن نحسا ... سوف يأتيكما فتفترقان «١٦٨»
[١] فقال الرشيد: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، ٢: ١٥٦ أنا والله كنت النحس وتطيّر من ذلك وما زال يردّد البيتين إلى أن وصل إلى خراسان. وحين وصل إليها اشتدت علّته في سنة ثلاث وتسعين ومائة. وانهزم بنو رافع من بين يديه وما أمكنه أن يتبعهم بنفسه لاشتداد مرضه فنفذ العساكر وراءهم فهزموهم وجاءوا بهم أسرى فأمر بالاحتفاظ بهم.
ولما كان في بعض الأيام والرشيد بطوس نصب له سرير على بستان في الدار التي نزل بها فقال لبعض الخدم: أرنى تربة هذا المكان، فمد يده وقبض على حفنة من التراب وأخرجها من تحت السرير ليراها الرشيد فحين فتح أصابعه قال الرشيد:
[١] ورد ذكر النخلتين في شعر أبى نواس في الأوراق للصولي ١١، وانظر الأغاني ١٣/ ٣٣١- ٣٣٥