وأما القطع: فجعله عقوبةَ مثلِه عدلًا، وعقوبة السارق؛ فكانت عقوبته به أبلغ وأردع من عقوبته بالجلد، ولم تبلغ جنايتُه حد العقوبة بالقتل؛ فكانت أليقَ العقوباتِ به إبانةُ العضو الذي جعله وسيلةً إلى أذى الناس، وأَخْذِ أموالهم.
ولما كان ضررُ المُحاربِ أشدَّ من ضرر السارق وعدوانه أعظم، ضَمّ إلى قطع يده قطع رجله؛ ليكف عدوانَه، وشر يده التي يبطش بها، ورجله التي يسعى بها، وشرع أن يكون ذلك من خلاف (١) لئلا يُفوِّت عليه منفعة الشق بكماله، فكف ضرره وعدوانه، ورحمه بأن أبقى له يدًا من شقٍّ ورجلًا من شقٍّ.
وأما الجلد: فجعله عقوبةَ الجنايةِ على الأَعراض، وعلى العقول، وعلى الأبضاع، ولم تبلغ هذه الجنايات مبلغًا يوجب القتل ولا إبانة الطرف، إلا الجناية على الأبضاع فإن مفسدتَها قد انتهضت سببًا لأشنع القتلات، ولكن عارضها في البكر شدة الداعي وعدم العوض، فانتهض ذلك المعارض سببًا لإسقاط القتل، ولم يكن الجلدُ وحده كافيًا في الزجر فغُلِّظ بالنفي والتغريب؛ ليذوق من ألم الغربة ومفارقة الوطن ومجانبة الأهل والخُلطاء ما يزجره عن المعاودة.
وأما الجناية على العقول بالسكر: فكانت مفسدتُها لا تتعدّى السكران غالبًا، ولهذا لم يُحرَّم السُّكر في أول الإسلام كما حرمت الفواحش والظلم والعدوان في كل ملة وعلى لسان كل نبي، وكانت عقوبة هذه الجناية غير مقدرة من الشارع، بل ضرب فيها بالأيدي والنِّعال وأطراف الثياب والجريد، وضرب فيها أربعين، فلما استخفَّ الناس بأمرها وتتابعوا في ارتكابها غلَّظها الخليفة
(١) يعني: إذا قطع يده اليسرى واستحق قطع رجله، فإنه يقطع الرجل اليمنى.