للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عن تلمح معنى النهي، فيكون كالغائب أو كالسكران، فإذا انتبه لنفسه، ندم على فعله، فقام الندم بغسل تلك الأوساخ، التي كانت كأنها غلطة لم تقصد، فهذا معنى قوله تعالى: ﴿إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: ٢٠١].

فأما المداوم على تلك النظرة، المردِّدُ لها، المصِرُّ عليها، فكأنه في مقام متعمد للنهي، مبارز بالخلاف، فالعفوُ يبعُد عنه بمقدار إصرارِه، ومن البعد ألا يرى الجزاء على ذلك، كما قال ابن الجلاء: رآني شيخي وأنا قائم أتأمل حدثًا نصرانيًّا، فقال: ما هذا؟! لترين غبَّها ولو بعد حين؛ فنسيت القرآن بعد أربعين سنة! (١).

واعلم أنه من أعظم المحن الاغترارُ بالسلامة بعد الذنب، فإن العقوبة تتأخر، ومن أعظم العقوبة ألا يحسُّ الإنسان بها، وأن تكون في سلب الدِّين، وطمس القلوب، وسوء الاختيار للنفس، فيكون من آثارها سلامة البدن، وبلوغ الأغراض.

قال بعض المعتبرين: أطلقت نظري فيما لا يحلُّ لي، ثم كنت أنتظر العقوبة، فأُلجئت إلى سفر طويل، لا نيةَ لي فيه، فلقيت المشاقَّ، ثم أعقب ذلك موت أعزِّ الخلق عندي، وذهاب أشياء كان لها وقعٌ عظيم عندي، ثم تلافيت أمري بالتوبة، فصلُح حالي، ثم عاد الهوى، فحملني على إطلاق بصري مرة أخرى، فطُمس قلبي، وعدمت رقتَه، واستُلب مني ما هو أكثر من فقدِ الأول، ووقع لي تعويضٌ عن المفقود بما كان فقدُه أصلح.

فلما تأملت ما عُوِّضتُ وما سُلب مني، صحتُ من ألم تلك السياط، فها أنا أنادي من على الساحل: إخواني! احذروا لُجَّةَ هذا البحر، ولا تغتروا بسكونه، وعليكم بالساحل، ولازموا حصنَ التقوى، فالعقوبة مُرَّةٌ.


(١) ذكره ابن عساكر في تاريخ دمشق (٦/ ٨٤)، وينظر: بغية الطلب في تاريخ حلب (٣/ ١٢٣٧)، وفيهما: (فنسيت القرآن بعد عشرين سنة).

<<  <   >  >>