للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٣٥ - فصل

في ذكر شبهتهم في ذلك وفيما قبله.

وهو أن المريد المشرف على غير الحقيقة يتعين عليه إفراد الوجه بكل حال، فلا ينطق إلا بذكر مناسب لحاله، ولا ينظر إلا بفكر مناسب لأمره، ولا يتحرك إلا بحركة مناسبة لتوجهه، حتى تنصبغ حقيقته بمعاني ما فتح له، فيعود للأحكام العامة، وإنما يعمل بذلك دواء لعلة تفرقته عند آخر أمرها، وهي مرتبة لا تجوز للمبتدئ لعدم تهييئه لها، فكيف بالناسك المقتدي، لأن شأنه اشتغال عوالم جنسه، وحفظ النظام بوجهه بالتزام التقوى، ثم بالاستقامة، حتى إذا استكملنا فيه، طولب بمراقبة أنفاسه، وعند ذلك يسوغ له الاستئذان في كل شيء، لغليان قلبه، وجريان الخواطر عليه مع الأنفاس، وحركات أحواله مع التقلبالت، ليسلم من الغلط، ويبرأ من الرعونة والدعاوى، ويهتدي فيما دق كما اهتدى فيما جل، وما لم يفعل ذلك كان الغلط والضلال والضرر أقرب إليه من كل شيء، حتى إذا صار فيه ذلك كالمطبوع، نقل لتحقيق الحقيقة بإفراد الوجه وإخلاء الباطن عن الغير، وهنا يضيقون عليه أنفاسه، ويضبطون عليه حواسه، ويمنعونه المخالطة والمماسة، حتى إذا صح توجهه، ألقوا إليه ما يصلح له من الذكر المفرد، اللائق به على حسب ما يرونه من شاهد حاله، ثم إذا تمكن ذلك منه عادوا به للمبادئ في الصورة، وإنما هو لتكميل الحقيقة، فالنهاية الرجوع للبداية، وليست البداية التعلق بالنهاية، فمن طلب بداية في نهاية فاتته العناية، ومن طلب نهاية في بداية حصل على الغواية، وما هو إلا كمن يريد منفعة الإكسير (١)، في المعدن قبل تطهيره، فيتلفه بغير منفعة، وهذه حالة هؤلاء المساكين الذين بادؤوا المبتدئ بالتجريد، فخرجوا به إلى محل النفي والتبعيد، واغتروا في ذلك بحركات المشايخ مع المريدين الذين علمت، همتهم، إما بسلوك سابق، أو بجذب غالب،


(١) الإكسير: الكيمياء، انظر تاج العروس (كسر).

<<  <   >  >>