لكن معجزة المسيح الخارقة، ما لبث أن التبست على كثير من أتباعه، فقالوا بإلوهيته وهو الذي بعث لينسخ عصر الشرك وعبادة البشر، ويدعو عبادة الخالق وحده.
ومضت ستة قرون على مبعث المسيح عليه السلام، أنهكت فيها البشرية المتدينة بالصراع الذهبي بين القائلين بلاهوتية السيد المسيح والقائلين بناسوتيته، وآن العقيدة الدينية أن تتحرر من كل شائبة تمس التوحيد وهو جوهر الدين كله. فاصطفى الله لختام رسالاته "محمد بين عبد الله" بشراً سوياً يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وتجوز عليه أعراض البشرية وعواطفها وهمومها، مثلما تجوز على سائر البشر.
وكانت المعجزة الكبرى الشاهدة على نبوة هذا البشر الرسول، كتاباً عربياً مبيناً يعيى العرب أن يأتوا بمثله، لكي يصدقوا بنبوته ويتبعوه وهو يقودهم برسالته إلى عصر الإنسان الذي لا يقر بالعبودية لغير خالقه.
وإذ جاء الإسلام مصدقاً لما بين يديه من رسالات الله ومهيمناً عليها بما نقى من جوهر الدين الحق، اختتمت به الرسالات بعد أن شارفت الإنسانية في تطورها مرحلة رشدها، وصارت أهلاً لأن تحتمل أمانة إنسانيتها وتكاليف وجودها الحر.
وما ينبغي أن يتعلق بالوهم، تجاهلُ المعجزات الأخرى للمصطفى عليه الصلاة والسلام التي تواتر بها الخبر. وإنما الأمر أن موضوع هذه الدراسة خاص بإعجاز القرآن.
وليس صحيحاً أن المعتزلة أبطلوا سائر المعجزات غير القرآن، فالحق أنهم أثبتوها معجزة ودلالة على النبوة، وعدُّوها - بالنسبة إلى من لم يشاهدوها، ممن جاءوا بعد عصر المبعث - فرعاً على ثبوت النبوة، لكنهم لم يتعلقوا بها في الاحتجاج والرد على المخالفين. يقول "القاضي عبد الجبار" بعد احتجاجه لثبوت المعجزة القرآنية على وجه الإلزام: