فإن لم يكن للعرب في عصر المبعث وجه اختصاصٍ بالتحدي، فلأنهم أصحاب هذا اللسان العربي يدركون أسرار بيانه.
فمناط التحدي إذن، هو عجز بلغاء العرب في عصر المبعث عن معارضة هذا القرآن جون أن يُفهم من هذا أن حجة إعجازه خاصة بعصر دون عصر، أو على العرب دون العجم.
وكان الخلط بين ما في ثبوت عجز المشركين من العرب عن الإتيان بسورة من مثله، من حسم لموقف التحدي، وبين خلود المعجزة وبقاء الحجة بها ثابتة على مر الدهور، هو مدعاة الالتباس في القضية وطول الجدل فيها.
وقد نقل "القاضي عبد الجبار" كلام من سألوا عن العجم، ممن لا يعرفون الفصاحة أصلاً، كيف يعرفون مزية كلام فصيح على سواه؟ فإن كانوا لا يعرفون ذلك فيجب ألا يكونوا محجوجين بالقرآن.
وردَّ بأن الجميع يعرف إعجاز القرآن، في الجملة، بعجز العرب عن معارضته مع توافر الدواعي.
وقد أطال القاضي عبد الجبار الكلام في موقف العجم عن إعجاز القرآن، وهم يعرفون القدر المعتاد من الفصاحة فضلاً عن أن يعرفوا الخارج عن هذا الحد، ونقل أقوال شيوخه في هذه المسألة، ثم قال:"فأما قول من يقول: إن العجم إذا لم يصح فيهم تأتَّي مثل هذا القرآن ولا نعذُّره، فلا ينكشف ذلك فيهم أصلاًَ، فكيف يصح التحدي فيهم والاحتجاج بالقرآن عليهم؟ فبعيد، وذلك لأنا لا نقول إنه - صلى الله عليه وسلم - تحداهم، وإنما تحدى أهل هذا الشأن، وجعل تعذر المعارضة عليهم دلالة على نبوته، ودلالة لسائر الناس على أن القرآن خارج عن العادة. . . فهم يعلمون أن تعذر المعارضة على أهل هذا اللسان هو الدلالة، فإذا أمكنهم معرفة ذلك فحالهم في أن الحجة قائمة عليهم، كحالهم لو عرفوا تعذر المعارضة من قِبَلِهم لو كانوا أهل الفصاحة".