به عن سائر أنواع الكلام الموصوف بالبلاغة، قالوا: إنه لا يمكننا تصويره ولا تحديده بأمر ظاهر نعلم به مباينة القرآن غيره من الكلام، وإنما يعرفه العالمون عند سماعه ضرباً من المعرفة لا يمكن تحديده. وأحالوا على سائر أجناس الكلام الذي يقع فيه التفاضل، فتقع في نفوس العلماء به عند سماعه معرفةُ ذلك، ويتميز في أفهامهم قبيلُ الفاضل من المفضول منه. قالوا: وقد يخفى سببه عند البحث ويظهر أثره في النفس حتى لا يلتبس على ذوي العلم والمعرفة به. قالوا: وقد توجد لبعض الكلام عذوبة في السمع وهشاشة في النفس لا يوجد مثلها لغيره منه، والكلامان معاً فصيحان، ثم لا يوقف لشيء من ذلك على علة.
"قلت: وهذا لا يقنع في مثل هذا العلم، ولا يشَفى من داء الجهل به، وإنما هو إشكال أُحِيلَ على إبهام. . .
"فأما من لم يرضَ من المعرفة بظاهر السمة دون البحث عن ظاهر العلة. . . فإنه يقول إن الذي يوجد لهذا الكلام من العذوبة في حس السامع الهشاشة في نفسه، وما يتحلى به من الرونق والبهجة التي يباين بها سائر الكلام حتى يكون له هذا الصنيع في القلوب وتَحصى الأقوال عن معارضته وتنقطع به الأطماع عنها، أمر لابد له من سبب، بوجوده يجب له هذا الحكمُ وبحصوله يستحق هذا الوصف" ٢٤: ٢٦
ومناط البلاغة في النظم القرآني، عند الخطابي، إنه "اللفظ في مكانه إذا أبدل فسد معناه أو ضاع الرونق الذي يكون منه سقوط البلاغة" ٢٩
وهذا الملحظ الدقيق، هو المحور الذي أدار عليه عبد الظاهر مذهبه في الإعجاز بالنظم، وهو أيضاً مما يلتقي - إلى حد ما - مع جوهر فكرتنا في الإعجاز البياني، ثم نختلف بعد ذلك في تحقيق مغزاه ولمح أبعاده وطريق الاحتجاج له:
فالخطابي حين يقول بسقوط البلاغة لفساد المعنى أو ضياع الرونق، يتجه إلى الرونق اللفظي فيجعله غير فساد المعنى.