الطرفين، فإذا كان هذا عند صاحب الشرع ليس بمستحب، كما قد ذكرتم أنه أراده، لزم أن من فعله معتقدًا أنه مستحب، يطلب فيه الأجر، مخالف عاصٍ لصاحب الشرع، وهو منهي عن السفر بهذه النية، فقولكم متناقض حيث قلتم: إنه نفى الاستحباب، ولم ينه عنه، مع أن الذين يفعلونه، يفعلونه لأنه مستحب عندهم، وهم ينهون عن هذا، /٣٩ب/ فإن الرسول إذا قال إنه غير مستحب، كان قد نهى أمته أن يظنوا أنه مستحب، أو يعملوه على أنه مستحب، فإذا كانوا لا يفعلونه إلا لأنه مستحب عندهم، وقد نهاهم عن هذا، فقد نهاهم عن فعله.
فإذا قلتم: لم ينههم مع ذلك، جمعتم بين النقيضين، فحقيقة قولكم: إنه نهاهم وهو لم ينههم.
ولهذا كان الذين ينازعون هؤلاء يحتجون عليهم بما سلموه من أنه ليس بمستحب، والذين يفعلونه إنما يفعلونه لأنه مستحب، فيجعلون قولهم: إنه غير منهي عنه، يقتضي أنه مستحب، لكن القول باستحبابه إلزام لهم، ونفي استحبابه نص قولهم، ولازم المذهب ليس بمذهب، لكن إذا كان فاسدًا دلّ على فساد المذهب، فلما كان قولهم يستلزم الاستحباب، مع أنهم نفوا الاستحباب، ولا بد لهم من ذلك وإلا عطلوا النص؛ كان قولهم متناقضًا.
ومنها: أن صيغة النفي، إذا لم يُرد بها النفي، كانت نهيًا، هذا هو المعهود في الخطاب، كما أن صيغة الخبر إذا لم يُرد بها الخبر كانت أمرًا، كقوله:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ}[البقرة: ٢٢٨] . {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}[البقرة: ٢٣٤] أما كون صيغة النفي يراد بها الإباحة، ونفي الاستحباب، فهذا غير معلوم في خطاب الشارع، فالحمل عليه حمل لكلامه على غير لغته المعروفة، ولسانه الذي خاطب به الناس.