بقول الله تعالى:{هو الذي خلف لكم ما في الأرض جميعًا} والإضافة بلام التمليك أبلغ جهتي الإباحة، فتصير على هذا كل الأحكام من رطب ويابس ثابتة بما في الكتاب فيبقى الرأي مستعملًا لتعرف الحكمة التي فيها علم المصلحة عاقبة.
وهي مما لا يوقف عليها بالرأي بالإجماع لأن المصلحة في أداء ما شرع الله تعالى من الأحكام النجاة في الآخرة لا الفوز في الدنيا، وبالآراء لا تدرك مصالح الآخرة وإنما تدرك مصالح العاجلة التي وقف عليها بالحواس والتجارب فتعرف نظائرها بالقياس.
وهذا كما قلتم إن تعليل النص بعلة لا تتعدى باطل لأنه لا يفيد إلا ما أفاده النص من الحكم فتبقى الفائدة في بيان حكم المصلحة فلم يثبت بالرأي.
وقال الله تعالى:{ولا تقف ما ليس لك به علم}{ولا تقولوا على الله إلا الحق} والقياس لا يوجب العلم.
وأما خبر الواحد فأصله كلام النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يوجب العلم يقينًا، ويكون حجة وإنما دخل الشك والاحتمال في الانتقال إلينا فلا يبطل بالاحتمال، وكان بمنزلة النص المؤول بالرأي من كتاب الله تعالى على بعض ما يقتضيه لسان العرب، وأنه حجة ولا يوجب العلم لأنه في أصله موجب.
والقياس في نفسه محتمل فلا يصير حجة مع الاحتمال، ولا يشكل علينا تعرف جهة الكعبة وبيان قدر مهر المثل وقيمة المستهلك بالرأي لأن معرفة جهات البلدان من مصالح الدنيا، ومما يوقف عليها بالحواس، وكذلك قيمة الشيء تعرف بمعرفة النظائر، وطريق العلم بها حس البصر، وهذا كما أن الله تعالى أخبرنا بإهلاك من مضى بكفرهم وأمرنا بالاعتبار بهم، وذلك يكون بالرأي لأنه قد عرف هلاك مثله بمثل ذنبه بحس العين أو السماع، فكان الاحتراز عن مثل سببه من مصالح الدنيا وحل محل الاحتراز عن تناول ما يتلفه مما وقف على ما تلف مثله بتناوله، ومحل الاحتراز عن سيف يقع عليه لعلمه بقطعه بتجربة وعلمه أن القطع سبب تلفه فلم تكن معرفة الجهة من أحكام الشرع إنما الحكم وجوب التوجه إلى الكعبة بعد تبين الجهة.
فالله تعالى أكرم الآدمي بالرأي المميز ليستدرك به مصالحه العاجلة ليبقى إلى حينه بتدبيره وجعل طريق الاستدراك به الوقوف على نظير ما علمه سببًا لخير أو شر بحواسه، فكان الرأي حجة له في مثلها.
فأما الشريعة فما شرعت إلا لأمور الآخرة، وإن تلك المصالح بنيت على خلاف مصالح العاجلة وكل الدين مبني على خلاف العادة الثابتة لتحري مصلحة عاجلة، فلم يكن الرأي فيها حجة.
ولأنا متى لم نصل إلى تلك المصالح بحواسنا، وهي طريق العلم لنا في الأصل لم