باب
[القول في مباحات العقول الجائزة للدنيا]
هذه المباحات أربعة أقسام، ونعني بالجائزة: ما يجوز أن يكون مباحاً عقلاً، ولا يجب حتى يجوز القول بحرمتها إذا قام دليل الحرمة شرعاً أو عقلاً.
فأما الأقسام: فنحو مباشرة أسباب البقاء فوق ما تندفع به الضرورة، وجمع المال
فوق الحاجة من نوع واحد، أو من الأنواع كلها، والتزين بأنواع ما يتجمل به على وج لا يتعلق به القوام، والجماع لا لطلب الولد، أو فوق ما يكتفى به للود من النساء فهذه إباحات غير واجبة بالعقول، ولهذا جاء الشرع بالتحريم فيها مرة وبالإباحة أخرى.
وقد مر أن موجبات العقل لا يرد الشرع بخلافها لأن الشرع والعقل حجتان من الله تعالى على عباده.
وحجج الله تتأيد ولا تتناقض فمجيء الشرع بالتحريم دليل على أن العقل جوز تحريمه.
وإنما كانت الإباحة لظاهر دليل يحتمل أن لا يكون دليلاً أو لانقطاع دليل كالعمل بدليل القياس جائز ويجوز ورود الشرع بخلافه فيبطل، وقد اختلف العلماء في حكم هذه الأقسام بمجرد العقول؟
فقال بعضهم: لا نشتغل بها لأن الله تعالى لم يدعنا والعقول.
وقال بعضهم: بالحرمة حتى تثبت الإباحة بدليل شرعي.
وقال بعضهم: بالوقف.
وقال علماؤنا: بالإباحة حتى يقوم دليل الحظر.
أما الأول فقد مضى.
وأما الثاني: فنقول إن الإنسان عبد الله والدنيا كلها لله تعالى.
والأصل في ملك الغير حرمة التناول حتى يبيحه المالك وكما في عبيدنا معنا، ولا دليل فيما وراء ما يتعلق به أصل البقاء من حيث الضرورة وضرورة الحاجة كانت مبيحة فبقي ما وراءها تحت الحرمة.
وأما الثالث فنقول: إن دليل العقل فيها يحتمل الإباحة والحظر، ولهذا جاء الشرع بالحظر تارة وبالإباحة أخرى والشرع لا يأتي بمخالفة دليل العقل ولكن قد يتبين به ما يدل عليه العقل مما كان قد يخفى قبل الشرع لقلة التأمل أو لاحتمال دليل العقل أو لتعارض