للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فأما الذين قالوا إن الحق حقوق: فإنهم ذهبوا إلى أن المجتهد كلف الفتوى بغالب رأيه وما كلف إلا الفتوى بالحق.

فلولا أنه يصيب الحق به، وإلا لما توجه التكليف عليه بإصابته بغالب الرأي لأن الله تعالى ما كلف ما ليس في الوسع ولن يصير كل مجتهد مصيبا للحق إلا ولاحق حقوق.

وهذا كاستقبال القبلة، فإنه شرط لصحة الصلاة، وهي إلى جهة واحدة حالة التبين وعند الاشتباه تصير الجهات كلها قبلة على ما قال الله تعالى: {فأينما تولوا فثم وجه الله} حتى قيل: إن المتحرين إذا صلوا إلى أربع جهات مختلفة أجزأتهم صلاتهم قالوا وغير ممتنع أن يكون الحق حقوقا في أناس مختلفين في بعضهم حظر، وفي بعضهم إباحة إذا كان لا يلزم كل واحد منهم ما لزم الآخر.

كما صح عند اختلاف الأزمنة نسخ الإباحة بالحظر ونسخ الحظر بالإباحة.

وكما صح في باب قبلة الصلاة حالة الاشتباه إذا اختلفوا كانت قبلة كل فريق ما أدى إليه تحريه، ولأنه جائز من الله تعالى بعث رسولين في زمان واحد إلى قومين مختلفين على اقتصار رسالة كل واحد منهما إلى قومه خاصة مع كينونة كل واحد منهما محقا.

فكذلك جاز بالاجتهاد مثل ذلك، فيختلف عالمان بالاجتهاد ويلزم قوم كل واحد منهما إتباع إمامه مع كينونة كل واحد منهما محقا.

وهذا لأن الله تعالى ابتلى عباده بهذه الأحكام ليمتاز الخبيث من الطيب ويجوز اختلاف هذه الحكمة من الناس باختلاف الأزمان فيختلف الابتلاء لأجله وكذلك يجوز الاختلاف، باختلاف الطبقات في زمان واحد ألا ترى أن مصالح الأطعمة كما تختلف باختلاف الأزمنة كذلك تختلف باختلاف الناس في زمان واحد.

ولأن من قال أن الحق واحد عند الله تعالى، ولكن العمل صواب حق بكل اجتهاد فقد أثبت الحظر والإباحة حقا في حق العمل به كما أثبتنا نحن في حق الله تعالى.

ثم الذين قالوا إن الحقوق على مرتبة واحدة قالوا: لأن الرجحان لا يثبت إلا بدليل.

والذين قالوا إن الواحد أحق، فذهبوا إلى أنا لو سوينا بينها لبطلت مراتب الفقهاء، وساوى الباذل كل جهده في الطلب المبلى عذره بأدنى طلب، ولأن المجتهدين ما اجتهدوا إلا لإصابة ما تشهد النصوص بالحقية خلفا عن شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الناس كلهم إلى حكم واحد ما نرى بين أعدادهم اختلافا. إلا باختلاف أحوالهم كالمرض والسفر والغنى والفقر ونحوها.

فكذلك الاجتهاد يجب أن يكون كذلك، وكان يقتضي هذا أن يكون الحق واحدا في حق الكل، إلا أنا تركنا القول به ضرورة أن لا يصير الآخر مكلفا بما ليس في وسعه،

<<  <   >  >>