والذي دل على أن التحريم من هذا الطريق وأن الأصل هو الإباحة قول الله تعالى:{قل لا أجد في ما أوحى إلى محرماً على طاعم يطعمه} الآية فعلم رسول الله الاحتجاج بلا دليل على أن التحريم من طريق الشرع، وعدم الدليل لا يكون حجة للإباحة فعلم أن الإباحة فوق الحاجة أصل ثابت بدليل العقل ظاهرًا لا قطعًا، وإنه حجة يجب العلم به حتى يتبين بالشرع أن الحق في خلاف ذلك الظاهر الذي كان يحتمله الدليل فيصير دليل الشرع كالمخصص لدليل العقل، ويكون حكمه حكم الخاص يرد على العام فيبقى العام حجة فيما لم يرد الخصوص فيه.
فأما الجواب عن قولهم: إن العبد والدنيا لله تعالى فهذا استدلال واهي، لأن ملك الغير لا يحرم تناوله لمعنى في المتناول بل صيانة لحق المالك، فإن حقه ثبت لما يعود إليه من الفائدة بتملكه حتى إذا مات وصار بحيث لا يحتاج سقط ملكه.
ولما ثبت الملك لحاجته إليه في الجملة وجب الصيانة عليه حتى لا يتضرر بالائتلاف عليه.
فإن الإضرار ظلم فنهى الغير عن تناوله كما نهى عن شتمه وسائر وجوه الإضرارات إلا أن يوجد إذنه فيباح لسقوط حقه بإذنه، وسقط معنى الضرر، إذا جاء الرضى فإن الإباحة إحدى جهات التصرف من المالك فلا يكون نفاده من الملك ضرراً يلحقه.
وأما الملك لله تعالى فليس يثبت من هذا الطريق-تعالى الله عن ذلك-بل لأنه خلقه وكونه وليس يجب الصيانة عليه لدفع الضرر عنه-تعالى الله عن ذلك-بل خلقه للحكمة التي قلناها وذلك في أن تكون هذه الأشياء مخلوقة لبني آدم فيصير الأصل هو الإباحة كالمولى جعل شيئاً لمكاتبه فإن الحظر الذي يكون من جهة المالك يزول بهذا الجعل.
ولما صارت هذه الأشياء بحيث لا يتضرر المالك بتناولها، ولا ينتفع ببقائها أشبه من أموال الناس ملا ينتفع به من حبة سمسم وقطرة ماء ونحوها، وهذا القدر مباح التناول إذا وجدت ساقطة على الطريق.
فإن قيل: إنما جعلنا هذه الأشياء مخلوقة لنا حتى لا يخلو الصنع عن العاقبة الحميدة، وهذه الحكمة تثبت بأن يجعلها لنا من حيث نستدل بها على الصانع.
قلنا: قلنا: فائدة الاستدلال بها من قبيل فائدة الاستدلال بنفسه من حيث الاستدلال بأمارات الحدث بل في الفلك ما يوجب الشبهة، ويدل على الإنسان حتى لم يختلف الحكماء في حدث الإنسان.
وقال بعضهم بمن ينسب نفسه إلى الحكمة: بقدم العالم العلوي، أو الطباع على حسب اختلافهم