وأما الرابع؛ فلأنا نقول: إنه ثابت بدلالة العقل أنه مخلوق لعبادته، كما ثبت أن الدنيا مخلوقة له فيلزمه اعتقاد وقف نفسه للعبادة، كما لزمه اعتقاد أن الدنيا خلقت لمصالحه.
فأما عبادة معتادة عبادة في الشاهد فلا يأتي بها إلا بعد الأمر لأن الإتيان به.
وإن كانت عبادة فالكف عنها هيبة، واحتشاماً إلى أن يؤمر عبادة أيضاً، فإنه ما من فعل يكون عبادة إلا وفيه ضرب بسوطه، وطلب قرب منزلة فإن رأس العبادات الصلاة، وإنها بمنزلة المناجاة مع الملك في الشاهد، وفي لمصير إلى مكان الخلوة للخدمة.
والمناجاة ضرب بسوطة وطلب منزلة واقتضاء مراد وكانت قرة عين رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته فلما كانت مشوبة ما عليه بما له لم يقدم على ما له بمجرد العقل واقتصر على مجرد ما عليه من وقف نفسه، ولو عن الحركة حتى يأتيه الأمر.
ولهذا قال علماؤنا-رحمهم الله-:إن الأصل في الدعوات والعبادات كف اليد عن الرفع إلا حيث أذن، وكف البصر عن الشخوص وخفض الصوت بالدعاء إلا حيث أذن به، وبه نطق كتاب الله تعالى:{أدعوا ربكم تضرعاً وخفية}، وقال الله تعالى:{قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون}.
والجملة فيه: أنا عرفنا بدلالة العقل أن الله تعالى خلقنا لنؤمن به ونعبده كما نطق به كتاب الله: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} وسائر الآيات لكن العبادة مجملة فيجري مجرى خطاب الله إيانا بالصلاة فما يلزمنا من أمره بالصلاة بالوحي قبل البيان يلزمنا من أمره بالعبادة الثابتة بدلالة العقل فرأس الإسلام التعظيم، وهو الكف عن كل فعل على اعتقاد الطاعة حتى يأتينا البيان مخافة أن نقع بما يتصور عندنا حسناً فيما ليس بحسن مرضي لله تعالى تعظيماً له.
ألا ترى أن بعد الشرع كانت الصلاة بلا طهارة قبيحة ومكروهة في بعض الأوقات وترددت بين فاسدة وجائزة.
وهذا كما قلنا في الدنيا إنا نعلمها بدلالة العقل مخلوقة لنا ولضروب فوائد تعود إلينا، ولكن الانتفاع بعين منها لعين منفعة لا يكون إلا ببيان أن ذلك العين يصلح لتلك المنفعة غير أن الصلاح لنا مما يعرف بدلائل غير دلالة الوحي وأن يكون مرضياً لله تعالى لا يعرف إلا بدلالة الوحي، والله أعلم.
ولهذا المعنى كان ترك اعتقاد وجوب الطاعة فراراً لأنه من الإيمان فأما الطاعة نفسها فتركها فسق وفعلها فيه زيادة فضيلة ودرجة، فكان أمراً زائداً على الإيمان من جملة ما يحتمل قبحاً في الجملة.
ويدل عليه أن هذه العبادات علقت بأسباب شرعاً لا تدرك بالعقول كزوال الشمس والبيت وخمس من الإبل السائمة.