يعود لطبيعة الرجل الأوروبي المتفتح. فالخيار المشترك الذي أشرنا إليه قد
مكن لليهود القادمين ما لم يكن مألوفا في الشرق؛ إذ جاؤوا إلى أوروبا مشتتين منبوذين غير فاتحين، لكن الشعب الأوروبي أوسع لهم الإقامة والضيافة، وغدوا في النهاية هم المسيرين الحقيقيين للعمل الأوروبي والثقافة والسياسة والحياة الاقتصادية.
فالذي توافر لليهود في أوروبا لم يكن متوافرا لهم في البلاد الآسيوية،
ما دام اليهود في مصر الفرعونية والإمبراطورية الآشورية يعيشون شروط المنبوذين والعبيد، وفي هذا كله لا يوجد أي نتائج سلبية في النهاية: فاليهودي - بكل بساطة - لا يريد أن يستعيد تجربة آبائه العبيد في آسيا
وفي مصر.
لكن النجاح البالغ والعقلية الإيجابية جدا لليهود في أوربا قد تركا لنا قرينة أخرى مفادها أن هذا الاختيار له أسباب تسوغه هي أكثر إيجابية،
وهي مبنية على معرفة أبعد غورا بالرجل الغربي في أوروبا - ففي ذلك
العصر كانت آسيا هي الحضارة والإمبراطورية، على عكس ما كانت عليه أوروبا، مع أن أوروبا عرفت الحضارة عبر اليونان، وكذلك في عصر الرومان، لكن الحضارة الأولى لم تكن سوى مساحة شريط ضيق على شاطئ المتوسط هو مجرد انعكاس للحضارات الآسيوية القريبة. أما الحضارة الثانية فكانت لا تشكل كما الأولى سوى مساحة ضيقة للمجال الروماني والشمال السلافي البربري.
فالرجل الغربي؛ مع أنه منفتح لسائر الحضارات المحيطة به، إلا أنه كان لا يزال ابن نشأته الأولى (frustre) ؛ فظا في توحش السلوك بغير ثقافة ولا ماض.
أما الرجل الشرقي فهو من جانب رجل رشحت إليه تقاليد الثقافة القديمة وأفكارها فمازجت سلوكه، وهو من جانب آخر ناضج يتأقلم مع