وجواب ذلك: أنَّ أولى القولين بالتأويل لذلك، تأويل من تأوَّله: "ولا جنبًا إلا عابرى سبيل، إلا مجتازى طريق فيه"؛ وذلك أنه قد بيَّن حكم المسافر إذا عَدِم الماء وهو جنب في قوله: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا)، فكان معلومًا بذلك أن قوله "ولا جنبًا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا"، لو كان معنيًّا به المسافر، لم يكن لإعادة ذكره في قوله: "وإن كنتم مرضى أو على سفر" معنى مفهوم، وقد مضى ذكر حكمه قبل ذلك. وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: يا أيها الذين آمنوا، لا تقربوا المساجد للصلاة مصلِّين فيها وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوها أيضًا جنبًا حتى تغتسلوا، إلا عابري سبيل. يؤيده: ما ذكره ابن كثير في سبب نزول الآية عن يزيد بن أبي حبيب - رحمه الله -عن قول الله عز وجل {ولا جنباً إلا عابري سبيل} أنَّ رجالاً من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد، فكانت تصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم، فيردون الماء ولا يجدون ممرا إلا في المسجد، فأنزل الله: {ولا جنبا إلا عابري سبيل} ويشهد لصحة ما قاله يزيد بن أبى حبيب - رحمه الله- ما ثبت في صحيح البخاري: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "سدوا كل خوخة في المسجد إلا خوخة أبى بكر"، وهذا قاله في آخر حياته - صلى الله عليه وسلم - علماً منه أنَّ أبا بكر- رضي الله عنه- سيلي الأمر بعده، ويحتاج إلى الدخول في المسجد كثيرا للأمور المهمة فيما يصلح للمسلمين، فأمر بسد الأبواب الشارعة إلى المسجد إلا بابه. ثم نقول: ويصلح حمل الآية على المعنيين، الصلاة ومواضع الصلاة، فتَكُونَ الْآيَةُ عَامَّةً فِى قُرْبَانِ الصَّلَاةِ وَمَوَاضِعِهَا، وَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ عُبُورَ السَّبِيلِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ فِي مَوْضِعِهَا خَاصَّةً، وَهَذَا إِنَّمَا فِيهِ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَنَا عَلَى الصَّحِيحِ، وَعَلَى هَذَا فَتَكُونُ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى مَنْعِ اللُّبْثِ، لسبب نزول الآية ,وخاصة أنه قد صح عن عليِّ - رضى الله عنه- أنه قال: أنزلت هذه الآية في المسافر: (ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا) قال: إذا أجنب فلم يجد الماء تيمم وصلى حتى يدرك الماء , فإذا أدرك الماء اغتسل."رواه البيهقي (١/ ٢١٦) وابن جرير في تفسيره (٥/ ٦٢) من طريقين عن المنهال بن عمرو عن زر بن حبيش عنه. وسنده صحيح، وانظر شرح عمدة الفقه (٣/ ٣٩١) وجامع البيان في تأويل القرآن (٨/ ٣٨٥) وتفسير القرآن العظيم (٢/ ١٨٩) وأحكام القرآن لابن العربي (١/ ٤٣٧) وإرواء الغليل (١/ ٢١١)