للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ولكني أضعت قلبي فأضعت كل شيء. كنت أجد في دمشق صدراً أودِعه كل آلامي (١)، فأصبحت وآلامي تنوء بفؤادي الملتاع لا يجد من يبثّه إياه.

ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة ... يواسيك أو يُسليك أو يتوجّعُ

منظر واحد لا يفارقني في جيئتي وذُهوبي وقَومتي وقَعدتي، ذلك هو منظر وطني، يتمثل لي في كل طريق ويتراءى لي في كل مذهب، أقضي نهاري مُطْرقاً مفكراً، حتى إذا جَنَّ الليل وأويت إلى فراشي انصبَّتْ عليّ الذكريات المؤلمة صبّاً، فما أزال بها أدفعها فتزداد إقداماً وأطردها فتزداد ثباتاً، حتى أُغلب على أمري، فألقي الوسادة وأثور من الفراش أفزع إلى النور، وأنتصب


(١) كانت أمه يومئذ في قيد الحياة، وتلك المرة الثانية التي فارقها فيها، الأولى كانت في سفرته الأولى إلى مصر، وانظر الوصف المؤثر لذلك الفراق الأول في مقالة «ذكريات» في كتاب «من حديث النفس»، قال: "وصفر القطار الذي يحملنا إلى مصر، فازداد القلب خفقاناً واضطراباً ... هناك تلفّتُّ فرأيتني وحيداً، ورأيت القطار يَجِدّ لينأى بي عن أهلي وبلدي، فهممت بإلقاء نفسي من نافذة القطار، أردت أن ألقي بنفسي لأني لم أكن أتخيل أن في استطاعتي الحياة يوماً واحداً بعيداً عن أمي". ثم توفاها الله بعد عودته من مصر بسنة وشهور، في الثامن من تموز ١٩٣١ (٢٢ صفر ١٣٥٠). وقصة وفاتها المفجعة تمتد في «الذكريات» بطول ثلاث حلقات، من أواخر الحلقة السادسة والأربعين إلى أواسط التاسعة الأربعين، فمن شاء قرأها هناك، أما أنا فلقد قرأتها عشرين مرة أو ثلاثين أو أكثر، وما قرأتها مرة إلا واستعبرت، ولو قرأتها اليوم لفاضت عيناي من جديد! (مجاهد).

<<  <   >  >>