فيقترب مني فضوليٌّ فيخبرني خبره، وإذا هو ... يا لروعة ما قال: معلم المدرسة، صديقنا المَرِح الفَرِح فلان!
* * *
وأسافر إلى السلمية فأعيَّن في مدرستها الكبرى الجميلة، وأتحدث إلى مَن فيها من المدرسين ويتحدثون إليّ، فيخبروني أن في قرية صغيرة قاحلة مدرسة فيها دون العشرة من التلاميذ، وفيها معلم من خريجي دار المعلمين، شاب قوي الأمل بادي النبوغ، يُقذَف به إليها فلا يجد أنيساً يأنس به ولا ضرورة من ضرورات المعيشة، بل لا يجد تلاميذ يلقي عليهم دروسه! وتتكاثر عليه ذكرياته المُمِضّة فيعتريه نوع من مرض السماء (الذي يصفه لامارتين) فيُمضي نهاره كله يروح ويغدو في الطرقات، ينظر في الفضاء البعيد نظرات شاردة مبهمة وقد انطفأ في نفسه نور الأمل والحياة!
* * *
هذه مشاهدات ليس فيها مبالغة ولا غلوّ الكُتّاب في الوصف، ولكن فيها الحقيقة الواقعة.
يخرج الشاب الغر من دار المعلمين ونفسه تفيض بالأمل، وهو لا يعرف من الحياة إلا محيط المدرسة العلمي البعيد عن الآلام، الذي كان يعيش فيه وسط رفاقه وأساتذته الذين يطمئن إليهم ويأنس بهم، في المدينة الكبرى التي يألفها ويجد فيها راحته، فلا تكون إلا ليلة وضحاها حتى يُقذَف به إلى قرية نائية ما رآها ولا يعرفها، ولا يجد فيها إنساناً ولا غذاء ولا مسكناً!