منه، فوقفنا في الدهليز حتى طلع علينا السنوسي، وكان متوسط القامة نحيفاً أبيض اللون، له أنف أقنى كبير وشفتان رقيقتان، يلبس الثياب المراكشية، فقال شيئاً لا أذكره الآن. ولما انصرفنا سألت عنه ماذا يكون، فقال لي أحد الشيوخ: إنه شيخ الطريقة السنوسية.
قلت: شيخ طريقة؟ أهذا كل شيء؟ وهززت رأسي ساخراً ولم أجب.
ومرت سنون طويلة رأيت فيها من ألوان المصائب والعِبَر ما أنساني السنوسي وتلك الزيارة، حتى كان الأسبوع الماضي وقرأنا نبأ وفاته الذي روّع الناس وآلمهم، فأخذت القلم لأكتب عنه، ولكن رددته إلى مكانه وسألت عن السنوسي من جديد: ماذا يكون؟ فقالوا: زعيم عصابة مجاهدة كعمر المختار.
أهذا كل شيء؟ ليبقَ القلم مكانه إذن، ولننتظر من يكتب عنه.
وكتبوا وقرأنا، فما ازددنا بالرجل معرفة ولا عرفنا من سيرته شيئاً! وهكذا نحن أبداً، نمدح ونرثي، ولكن كل رثاء ككل رثاء وكل مديح ككل مديح: ألفاظ رنّانة وخيالات ضخمة، أما الحقيقة وتصويرها والنفس وتحليلها فشيء لا نعرفه.
وهكذا جهل الناس السنوسي حتى ما يظنّونه إلا زعيم عصابة أو شيخ طريقة، فأحببت أن أعرّفهم به في هذه الكلمة الصغيرة كما عرفته أنا، وإن كان ذلك لا يشفي غليلاً.