هذا وما نريد أن نصف أدب جبري في هذه الكلمة الوجيزة، ولكنا نريد أن نقول على رؤوس الأشهاد، لا عن رغبة ولا عن رهبة: بأن الأستاذ جبري الشاعر الكبير، والباحث المدقِّق، والمنفرد بالمَراثي الوصفية التحليلية، والعربي الوفيّ للعربية، لا يمكن أن يزيده فَقْدُ الوظيفة إلا سُمُوّاً في الأدب ودُنُوّاً من الخلود ... بل إن الأستاذ جبري مُذ أُغلق دونَ اسمه سجلُّ الوظيفة قد فُتِحَ لاسمه سجلُّ الخلود.
* * *
= أن فيها تعبيراً صريحاً واضحاً عن واحدة من أظهر صفات علي الطنطاوي رحمه الله، وهي الوفاء، ومعها يظهر خُلُق الاستقامة والصدق وكراهية التزلف والنفاق، وكلها من صفاته البيّنة كذلك. أما الأمر الآخر فهو من باب الإنصاف لجبري، وقد قرأتم فيما مضى من هذا الكتاب رسالة «الأدب القومي» التي نشرها جدي سنة ١٩٣٠، وعلمتم أنه إنما نشرها رداً على محاضرات ألقاها شفيق جبري في مدرسة الآداب العليا في تلك السنة ووصف فيها الأدب بأنه «ألهيَّة» شريفة. هذا كله مفصَّل في «الذكريات» (الحلقة ٥٥ في الجزء الثاني)، وفي تلك الحلقة شهد للرجل بأنه ما جاوز بمذهبه هذا أن يلقيه على الطلاب بلسانه، ثم حمل على من جعل ذلك مذهباً يعيش له فقال: "لقد أنكرنا على أستاذنا شفيق جبري لأنه قال (قولاً) إن الأدب أُلهيّة شريفة، فكيف لا ننكر على من جعله (فعلاً) أُلهية ولكنها ليست شريفة ولا عفيفة ولا نظيفة؟ " (الذكريات: ٢/ ٢٢٩). ذلك ما قاله في حلقة الذكريات تلك (وبعده كلام ثمين يستحق أن يُكتَب بماء الذهب فاقرؤوه)، وهنا شهادة أخرى تزيد الرجل إنصافاً، ولعل فيها خاتمة القول في هذه المسألة (مجاهد).