كثير من المقالات من اعتزاز بالعربية وغَيرة عليها واستماتة في الدفاع عنها فقد نشأ عن علة خامسة غير كل ما ذُكر، عن حادثة جليلة مما لا يمرّ في أعمار الأمم الطويلة إلا مرات معدودات، فأي شيء هذا؟
* * *
في يوم الثلاثاء، السابع والعشرين من نيسان (أبريل) سنة ١٩٠٩ (السادس من ربيع الثاني ١٣٢٧)، خلع الاتحاديون السلطان عبد الحميد الثاني، وبذلك انتهت أيام الخلافة العثمانية وبدأ عهد الاتحاديين. وبعد ستة وأربعين يوماً من ذلك اليوم المشؤوم -الذي آذن بنهاية آخر إمبراطورية إسلامية في التاريخ المشهود- وُلد علي الطنطاوي، فقُدِّر له أن يعيش سني طفولته المبكرة تحت سلطة الاتحاديين الذين سعوا إلى «تَتْريك» الممالك الإسلامية غير التركية، من عربية وغيرها، والذين قذفوا الدولة العثمانية المريضة في محرقةِ حربٍ لا ناقة لها فيها ولا بعير، فأجهزوا عليها، وسقطت أراضيها كلها -إلا قليلاً- في أيدي المستعمرين الأوربيين.
لقد كانت تلك سنوات عجافاً، عانى فيها الناس في الشام من عسف الاتحاديين ودفعوا من أرواحهم وأقواتهم ثمناً لسياستهم الخرقاء. وحين أرادوا تتريك الولايات العربية التي كانوا يحكمونها أعلنوا الحرب على اللغة العربية، فَثَمَّ نشأ في نفس علي الطنطاوي هذا الحرص الغريب عليها والحميّة الشديدة لها. قال في مقالة له اسمها «عام ١٩٦٠»(وهي منشورة في كتاب «هتاف المجد»): "كنّا ونحن صغار نرى الحكّام كلهم من الترك، لهم السيادة ولهم التكرمة ولهم النعيم، ولغتهم التركية هي اللغة الرسمية،