علّني أقطع النهار في اللعب واللهو، ثم بدا لي فعدت عن هذه الفكرة الخبيثة، وذهبت إلى المدرسة قلقَ الفكر مشغولَ البال، فما استلفت نظري إلا إسراع الناس مُصْفَرَّةً ألوانُهم، تبدو عليهم أمارات الخوف والألم، إلى حيث لا أعلم. فتبعتهم حتى وصلوا دار الحاكم، ثم لم أدرِ ماذا كان بعد ذلك لأني أسرعت إلى المدرسة، فذهبت سعياً إلى قاعة الدرس، فوجدت الأستاذ يروح ويغدو فيها قلقاً، وقد ارتدى حلته الرسمية التي ما كان يلبسها إلا في يوم احتفاء أو عند قدوم مفتش، ورأيت بعضاً من أهل القرية قد جلسوا على المقاعد واجمين شاخصين بوجوه كئيبة مكفَهِرّة، فانسللت إلى مكاني وأنا أكثر ما أكون وجلاً وحيرة، وعلا الأستاذ المنبرَ فقال بصوت مرتجف ورنّة حزينة كأنها بكاء ونحيب: أولادي، هذه آخر ساعة أراكم فيها، ثم نفترق إلى غير تلاق، لأن بلادكم قد احتلها الألمان وأبدلوا لغتهم الجرمانية بلغتكم الفرنسية، فلا فرنسية بعد اليوم ...
وخنقته العبرات فما استطاع أن يتم كلامه، فانقطعت نياط قلبي من هذه الطعنة النجلاء، وعلمت لِمَ كان يسرع الناس إلى دار الحاكم. واأسفاه عليك يا لغتي الفرنسية، ويا لغة أمتي المحبوبة!
ثم عاد الأستاذ فقال: والآن أصغوا إليّ لأتلو الدرس الأخير. قم يا ...
فلم أسمع اسمي حتى ارتجفت وقمت، ولم أكن حفظت درسي، فوقفت ساكناً، فقال: اجلس يا بني، أنا لا أعنّفك ولا ألومك، ولكن اعلموا، اعلموا يا أولادي أنكم أضعتم بلادكم