[نص حديث قصة إبراهيم وسارة والجبار]
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله محمدٍ وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: فسنتحدث إن شاء الله في هذه الليلة عن قصة رواها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أخيه وأفضل الأنبياء بعدَه: إبراهيم عليه السلام.
هذه القصة رواها البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات: ثنتين منها في ذات الله، قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:٨٩]، وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء:٦٣]، وواحدةً في شأن سارة، فإنه قد قَدِم أرض جبارٍ ومعه سارة، وكانت أحسن النساء، فقال لها -إبراهيم يقول لزوجته سارة -: إن هذا الجبار -هذا الملك الكافر الطاغية في هذا البلد- إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك، فإن سألك فأخبريه أنك أختي، فإنك أختي في الإسلام، فإني لا أعلم في الأرض مسلماً غيري وغيرك، فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار، أتاه -هذا القريب للجبار أتى الجبار- فقال له: لقد قدم أرضَك امرأةٌ لا ينبغي لها أن تكون إلا لك، فأرسل إليها، فأُتي بها، فقام إبراهيم عليه السلام إلى الصلاة، فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها، فقبِضت يده قبضةً شديدة، فقال: ادْعِي الله أن يُطْلِق يدي ولا أضرك، ففعلت، فعاد، فقبِضت أشد من القبضة الأولى، فقال لها مثل ذلك، ففعلت، فعاد، فقُبِضت أشد من القبضتين الأولَيَين، فقال: ادعِي الله أن يطلق يدي، فلكِ الله ألا أضرك، ففعلت وأُطْلِقت يده، ودعا الذي جاء بها، فقال له: إنك إنما أتيتني بشيطان، ولم تأتني بإنسان، فأخْرِجْها من أرضي وأعطها هاجر، قال: فأقبلت تمشي، فلما رآها إبراهيم عليه السلام انصرف، فقال: مَهْيَمْ؟ قالت: خيراً، كف الله يد الفاجر، وأخدم خادماًَ قال أبو هريرة: فتلك أمكم يا بني ماء السماء).
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (لم يكذب إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلا ثلاث كذبات).
قال في الحديث عن الكذبة الأولى حين دُعِي إلى آلهتهم: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:٨٩] وذلك أنه لم تكن به علة ولا مرض؛ ولكنه كان سقيم النفس، كاسف البال، حزيناً على شرك قومه؛ لأنهم لم يلبوا نداءه، ولم يطيعوه في دعوته.
فإذاً عندما قال: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:٨٩] لم يكن في الحقيقة كذاباً، وإنما استخدم التورية، ويقصد بالمرض (المرض النفسي) أنه مريض النفس، اعتلت نفسه من إصرارهم على الشرك والكفر، قال: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:٨٩] لما دعوه للخروج معهم إلى عيدهم، وكانوا يخرجون إلى عيد خارج البلد، قال لهم: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:٨٩]، وقبل أن يقول لهم: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:٨٩] نظر نظرة في النجوم {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:٨٩] وكان هؤلاء القوم كفاراً عبادَ الكواكب والنجوم، ويعتقدون أن النجوم لها تأثير في الحوادث الأرضية، وفي مرض الناس، والإنجاب، والرزق ونحو ذلك، فأراد إبراهيم الخليل أن يقيم عليهم الحجة، {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:٨٨ - ٨٩] عاملهم من حيث كانوا؛ لئلا يُنْكِروا عليه {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} [الصافات:٩٠] تركوه وذهبوا إلى عيدهم خارج البلد.
لما خلت البلد وصار معبد الأصنام فارغاً دخل إبراهيم على الأصنام، فكسَّرها، ثم وضع القدوم (الفأس) في يد كبيرهم لعلهم يعتقدون أنه هو الذي غار غِيْرةً لنفسه، وأنف أن تُعبد معه الأصنام الصغار، فقام عليها وكسرها.
فلما رجعوا من عيدهم وجدوا أصنامهم مكسَّرة، {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:٦٢] لأنه لم يتخلف عن حضور العيد غيره، {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء:٦٣] وأشار بإصبعه {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء:٦٣] أي: غضب من أن يعبد معه الصغار وهو أكبر منها فكسرها.
ماذا أراد إبراهيم من هذا الكلام؟ أن يقيم عليهم الحجة، ولذلك قال لهم: {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء:٦٣] حتى يخبروا من فعل ذلك بهم، اسألوا الأصنام المكسرة، حتى يخبروكم من كسرها، {إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء:٦٣].
فلما قال لهم ذلك رجعوا إلى أنفسهم، وعرفوا أنها لا تنطق، {نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ} [الأنبياء:٦٥] رُدُّوا إلى الكفر بعد أن أقروا على أنفسهم بالظلم.
لما قال لهم: {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء:٦٣] رجعوا إلى أنفسهم، قالوا: {إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} [الأنبياء:٦٤] كيف تعبدون أشياء لا تسمع ولا تبصر.
لكن لما كان القوم على فسادٍ في الطريقة أجيالاً استمرءوا الكفر، وأصروا على الباطل، وعاندوا وتعصبوا لمبدئهم، ورفضوا الحق ورجعوا مرة أخرى، {ثُمَّ نُكِسُوا} [الأنبياء:٦٥] هذا معنى: {ثُمَّ نُكِسُوا} [الأنبياء:٦٥] رجعوا إلى الكفر مرةً أخرى بعد أن لاح لهم الحق، وأقنعهم إبراهيم، وتبينت لهم القضية بالحجة؛ لكنهم رجعوا، نكسوا على أنفسهم، مثل المريض إذا صارت له صحوة ثم انتكس مرة أخرى ورجع إلى المرض، {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء:٦٥] كيف نسألهم وهم لا ينطقون؟ فانتهز إبراهيم الخليل الفرصة، وقال لهم: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ} [الأنبياء:٦٦ - ٦٧] تباً لكم وهلاكاً لكم، {وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:٦٧].