للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[سياق حديث الهجرة وشرحه]

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فهذا الدرس سيكون عن قصة مسجد أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (لم أعقل أبويَّ قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفيَ النهار بكرةً وعشية).

وأبوها أبو بكر وأمها أم رومان رضي الله تعالى عنهما؛ ومعنى: يدينان الدين تعني: يدينان بدين الإسلام، فهي منذ أن وعت في هذه الدنيا وعرفت أبويها؛ عرفتهما مسلمَين.

وعائشة رضي الله عنها تقول: (لم أعقل أبويَّ قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يومٌ إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفَي النهار بكرة وعشية، فلما ابتُلي المسلمون) يعني: بأذى المشركين من كفار قريش وحاصروهم في الشعب، وآذوا المسلمين بالضرب والسجن والقتل والنفي (خرج أبو بكر مهاجراً قِبَل الحبشة) أي: ليلحق بمن سبقه من المسلمين إلى الحبشة، وهؤلاء المسلمون المهاجرون إلى الحبشة ساروا أولاً إلى جدة، وهي ساحل مكة ليركبوا منها البحر إلى الحبشة، بعدما أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم.

(فخرج أبو بكر مهاجراً قِبَل الحبشة حتى إذا بلغ بَرْك الغَماد) وبَرْك الغَماد: موضع على خمس ليالٍ من مكة إلى جهة اليمن.

فلما ابتعد أبو بكر من مكة مسيرة خمس ليالٍ وبلغ هذا الموقع، وهو بَرْك الغَماد (لقيه ابن الدَّغِنَة، وهو سيد القارَة) من هو ابن الدَّغِنَة هذا؟ هو رجلٌ مشركٌ كافرٌ يُنسب إلى أمه، وقيل: إلى أم أبيه، والدَّغِنَة معناها في اللغة: المسترخيه، وأصلها الغمامة الكثيرة المطر، ابن الدَّغِنَة هذا هو سيد القارَة؛ والقارَة قبيلة مشهورة من خزيمة بن مدركة بن إلياس، وكانوا حلفاء بني زهرة من قريش، وكان يُضرب بهم المثل في قوة الرمي، ولذلك يقول الشاعر:

قد أنصف القارَة من رماها

فـ أبو بكر لقي ابن الدَّغِنَة في هذا الموضع بعدما خرج من مكة يريد الهجرة إلى الحبشة.

(فـ ابن الدَّغِنَة قال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأنا أريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي) أخرجني قومي أي: تسببوا في إخراجي من بلدي مكة، وأنا أريد أن أذهب متوجهاً إلى الحبشة.

والسياحة في اللغة: أن لا يقصد الإنسان موضعاً بعينه ليستقر فيه، فهو في سياحة يسافر ويرحل بدون قصد موضع معين للإقامة، هذه هي السياحة في اللغة.

فيقول أبو بكر: (فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي، قال ابن الدَّغِنَة: إن مثلك لا يَخرج ولا يُخرج؛ فإنك تكسب المعدوم.

وفي رواية: المعدَم، وتصل الرحم، وتحمل الكلَّ -ومعنى الكل: العاجز الفقير الذي يحتاج من يعوله- وتقري الضيف -يعني: تكرم الضيف- وتعين على نوائب الحق) وهذه الصفات مثل الصفات التي وَصَفَت بها خديجة النبي عليه الصلاة والسلام.

فهذا الرجل المشرك يثني على أبي بكر الصِّدِّيق بأنه يعين في النائبات، وأنه كريم، وأنه يساعد ويغيث الملهوف.

يقول: (وأنا لك جارٌ -أي أجيرك وأمنعك ممن يؤذيك- فارجع فاعبد ربك ببلادك، فارتحل ابن الدَّغِنَة ورجع مع أبي بكر فطاف في أشراف قريش فقال لهم: إن أبا بكر لا يَخرج مثله ولا يُخرج، أتخرجون رجلاً يُكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكلَّ، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟! فأنفذت قريش جوار ابن الدَّغِنَة) فلم تكذب قريش جوار ابن الدَّغِنَة، وأقرت بجواره، وقبلت شفاعته؛ لأن ابن الدَّغِنَة كان سيداً في قومه, وكان له مكانة عند قريش، ولذلك قبلوا شفاعته في أبي بكر، وكفوا عن أبي بكر الأذى.

قالت عائشة: (وآمنوا أبا بكر، وقالوا لـ ابن الدَّغِنَة: مُرْ أبا بكر فليعبُد ربه في داره، فليصلِّ وليقرأ ما شاء، ولا يؤذنا بذلك، ولا يستعلن به) أي: ليس عندنا مانع أن نبقي أبا بكر؛ بشرط أن يخفي دينه في بيته ولا يظهره، ولا يتكلم بشيء من دينه جهراً (فإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا، فقال ذلك ابن الدَّغِنَة لـ أبي بكر فطفق أبو بكر يعبد ربه في داره فترة، ولا يستعلن بالصلاة ولا القراءة في غير ذلك، ثم بدا لـ أبي بكر فابتنى مسجداً بفناء داره وبرز، فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيتقَصَّف عليه نساء المشركين وأبناؤهم؛ يعجبون منه، وينظرون إليه، وفي رواية: فيتقذَّف إليه) ومعنى ذلك: أنهم يزدحمون عليه حتى يسقط بعضهم على بعض فينكسر، ومعنى يتقصفون: يجتمعون اجتماعاً عظيماً حتى إنهم يتساقطون من الزحام والرغبة في السماع، قالت عائشة: (وكان أبو بكر رجلاً بكَّاءً، لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين) وذلك لما يعلمونه من رقة قلوب النساء والشباب من أولادهم، وقد يميلون إلى دين الإسلام (فأرسلوا إلى ابن الدَّغِنَة، فقدم عليهم، فقالوا له: إنا كنا أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره، وإنه جاوز ذلك فابتنى مسجداً بفناء داره، وأعلن الصلاة والقراءة، وقد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا، فائته، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فَعَلَ، وإن أبى إلا أن يُعلن ذلك فسَلْه أن يرد إليك ذمتك، فإنا كرهنا أن نخفرك).

أي: إذا رضي أن يعود إلى داخل الدار فله ذلك، وإذا رفض وأصر على الجهر بدينه فاطلب منه أن يرد الأمان الذي أعطيناه بسببك.

(فإنا كرهنا أن نخفرك) أي: نحن لا نريد أن نغدر وقد أعطيناه الأمان بسببك، لا نريد أن نغدر به ونخفر الذمة، فاطلب من أبي بكر أن يرد إليك الجوار إذا كان يريد أن يستمر على هذا الإعلان.

() فإنا كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لـ أبي بكر الاستعلان.

قالت عائشة: فأتى ابن الدَّغِنَة أبا بكر فقال: قد علمتَ الذي عقدتُ لك عليه -أي: الشرط بيني وبينك- فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترد إليَّ ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أُخفرت في رجلٍ عقدتُ له) أي: لا أحب أن يكون صيتي بين العرب وسمعتي أنني أعطيت إنساناً جواراً ثم إن هذا الإنسان غُدِر به، وأن جواري لا قيمة له، فإنني أكره ذلك، فماذا كان جواب الصِّدِّيق رضي الله عنه؟ قال أبو بكر: (إني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله) ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ بـ مكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد أُرِيت دار هجرتكم، رأيت سبخة ذات نخلٍ بين لابَتين) أي: أرض مالحة لا تكاد تنبت، وبين لابتين: هما الحرتان، فهاجر مَن هاجر قِبَل المدينة حين ذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجع إلى المدينة بعض مَن كان هاجر إلى أرض الحبشة، وتجهز أبو بكر مهاجراً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على رسلك! فإني أرجو أن يؤذن لي، قال أبو بكر: هل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: نعم، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السَّمُر أربعة أشهر).

هذه رواية مختصرة لحديث الهجرة ساقها الإمام البخاري رحمه الله في كتاب الحوالة من صحيحه، وهو قد ساق هذا الحديث في عدد من الأبواب من صحيحه، ومنها ما هو في المناقب.

وهكذا كان من شأن أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله تعالى عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>