الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فالقصة التي سنتحدث عنها هذه الليلة -أيها الإخوة- قصة تشبه إلى حدٍ ما قصة أبي هريرة التي مرت معنا مع إناء اللبن وأهل الصفة، ولكنها مع صحابي آخر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم العظام، الذين عرفنا سيرتهم بالخير، وذكرهم بالطيب، وثناء العلماء الحسن عليهم، وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أبرُّ هذه الأمة قلوباً، وأعمقها فهماً وعلماً، وهم الذين عاينوا الوحي والتنزيل، وكانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فهم أعلم الأمة بالقرآن والسنة رضي الله عنهم.
هذه القصة يرويها الإمام مسلم والترمذي باختصارٍ، وأحمد رحمهم الله تعالى.
يقول المقداد رضي الله عنه وأرضاه:(أقبلت أنا وصاحبان لي وفي رواية: قدمت أنا وصاحبان لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصابنا جوعٌ شديدٌ، فتعرضنا للناس، فلم يضفنا أحد وفي رواية لـ مسلم: أقبلت أنا وصاحبان لي، وقد ذهبت أسماعنا وأبصارنا من الجهد، ومن الجوع والمشقة -ولا شك أن الجوع يؤثر على سمع الإنسان وبصره- فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس أحدٌ منهم يقبلنا) كل الذين عرضوا أنفسهم عليهم كانوا من الفقراء، وهذا يبين الشدة التي كان عليها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، والفقر الذي عاينوه ولاقوه، ومع ذلك صبروا على الدعوة، وعلى العلم مع النبي صلى الله عليه وسلم، ما وُجِدَ أحد يستطيع أن يطعمهم؛ لأن كل الذين عرضوا عليهم كانوا مقلين ليس عندهم شيءٌ يواسون به، ما هناك أحد عنده طعام زائد يعطي هؤلاء، جاء هؤلاء الثلاثة: المقداد وصاحباه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولما لم يجدوا أحداً يقبلهم، قال:(فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلق بنا إلى أهله) وهكذا كان عليه الصلاة والسلام يفعل، يأتيه الرجل الجائع ولا يوجد من يطعمه، فيذهب به إلى أهله، قال:(فإذا ثلاثة أعنز -والعنز هي: الشاة أنثى الماعز التي بلغت سنة يطلق عليها عنزٌ- وفي رواية: أربعة أعنز- فلعل واحدةً أضيفت بعد ذلك- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: احتلبوا هذا اللبن بيننا، قال: فكنا نحتلب، فيشرب كل إنسان منا نصيبه وفي رواية: فقال لي: يا مقداد! جزأ ألبانها بيننا أرباعاً، فكنت أجزؤه بيننا أرباعاً) ثلاثة أعنز تحلب والحليب الذي ينتج منها يقسم إلى أربعة أقسام: للنبي صلى الله عليه وسلم قسم، وللمقداد قسم، ولصاحبيه قسمان يقول المقداد رضي الله عنه وأرضاه:(فاحتبس رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة -أي: تأخر عن موعد عودته المعتاد- فحدثت نفسي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أتى بعض الأنصار، فأكل حتى شبع، وشرب حتى روي، فلو شربت نصيبه).
شرب المقداد شرب نصيبه الخاص به، وأبقى نصيب النبي عليه الصلاة والسلام، ولما تأخر النبي عليه الصلاة والسلام ذات ليلة، قال: جاءني وارد في نفسي أنه عليه الصلاة والسلام قد دعي إلى عشاء هذه الليلة، وأنه قد أكل حتى شبع، وشرب حتى روي، فلو أنني شربت نصيبه، وفي رواية مسلم:(فكنا نحتلب، فيشرب كل إنسان منا نصيبه، ونرفع للنبي صلى الله عليه وسلم نصيبه، فيجيء من الليل -هذه العادة النبوية- فيسلم تسليماً لا يوقظ نائماً ويسمع اليقظان -لا يكون بصوت مرتفع، ولا بهمس، وإنما يسلم تسليماً لا يوقظ نائماً ويسمع اليقظان- ثم يأتي المسجد فيصلي، ثم يأتي شرابه فيشرب، فأتاني الشيطان ذات ليلة، وقد شربت نصيبي، فقال: محمدٌ يأتي الأنصار فيتحفونه -والشيطان لا يقول: صلى الله عليه وسلم، أي: محمد صلى الله عليه وسلم ليس عليه خوف، الناس كلهم يضيفونه- ويصيب عندهم -أي: يطعم عندهم- ما به حاجة إلى هذه الجُرعة) أو الجَرعة، والفعل منه: جرعت، وهي: الحثوة من المشروب.
وسوس الشيطان للمقداد وقال: ما بمحمد حاجة إلى هذه الجرعة، أكيد أنه الآن قد شبع، قال:(فأتيتها فشربتها وفي رواية: فلم أزل كذلك حتى قمت إلى نصيبه فشربته، ثم غطيت القدح) يقول: في النهاية استسلمت لهذا الرأي، ولهذا الوارد، وأتيت إلى نصيب النبي صلى الله عليه وسلم فشربته وغطيت القدح، قال:(فلما أن وغلت في بطني -أي: دخلت بطني وتمكنت من بطني- وعلمت أنه ليس إليها سبيل، ندمني الشيطان وفي رواية: فلم أزل كذلك حتى قمت إلى نصيبه فشربته ثم غطيت القدح، فلما فرغت، أخذني ما حدث، فقلت: يجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم جائعاً ولا يجد شيئاً! وفي رواية أخرى لـ أحمد يقول: فلما وغلت في بطني -أي: الشربة- وعرف -أي: الشيطان- أنه ليس إليها سبيلٌ، ندمني، فقال: ويحك! ما صنعت؟ شربت شراب محمد، فيجيء ولا يراه، فيدعو عليك فتهلك، فتذهب دنياك وآخرتك وفي رواية مسلم قال: ندمني الشيطان، فقال: ويحك! ما صنعت؟ أشربت شراب محمد فيجيء، فلا يجده، فيدعو عليك فتهلك، فتذهب دنياك وآخرتك، قال: وعليَّ شملة -أي: كساء يتغطى ويلتف به- إذا وضعتها على قدمي خرج رأسي، وإذا وضعتها على رأسي خرجت قدماي -أي: أن الذي عنده كساءٌ قصيرٌ لا يكفي، وهذا من فقره رضي الله عنه- وفي رواية أحمد: وعليَّ شملةٌ من صوف، كلما رفعتها على رأسي خرجت قدماي، وإذا أرسلتها على قدميَّ خرج رأسي، وجعل لا يجيء لي نومٌ وفي رواية مسلم: وجعل لا يجيء لي النوم، وأما صاحباي فناما ولم يصنعا ما صنعت -أنا الذي أجرمت وأذنبت، وأخذت شربة النبي صلى الله عليه وسلم- فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فسلَّم كما كان يسلِّم، ثم أتى المسجد فصلى، ثم أتى شرابه، فكشف عنه فلم يجد فيه شيئاً، فرفع رأسه إلى السماء، فقلت: الآن يدعو عليَّ فأهلك، حضرت ساعة الموت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم أطعم من أطعمني، واسق من سقاني، فلما سمع هذه الدعوة، قال: اغتنمت الدعوة -وذلك لأن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم مستجابة- فعمدت إلى الشملة، فشددتها عليَّ -تأهب- وأخذت الشفرة -أي: السكين- فانطلقت إلى الأعنز أيها أسمن فأذبحها للرسول صلى الله عليه وسلم -مع أنها ليست ملكه- فجعلت أجتسها أيها أسمن) وهو يجتسها فوجئ بمفاجئة غريبة جداً، كان قد حلب الأعنز قبل قليل، وقسم اللبن وشرب نصيبه ونصيب الرسول صلى الله عليه وسلم، والعنز إذا حلبت تحتاج حتى يمتلئ ضرعها مرة أخرى إلى يوم، أو بعض يوم، فيقول:(فلا تمر يدي على ضرع واحدةٍ إلا وجدتها حافلاً -أي: ممتلئة باللبن، والحيوان كثير اللبن يقال له: حافل، والجمع: حفل- وإذا هنُّ حفلٌ كلهن -أي: كل الأعنز ممتلئة الضرع باللبن- فعمدت إلى إناء لآل محمد صلى الله عليه وسلم، ما كانوا يطمعون أن يحتلبوا فيه -إناء كبير- فحلبت فيه حتى علته رغوة -وهو زبد اللبن الذي يعلو اللبن بعد حلبه، يقال: رغوة، أو رِغوة، أو رُغوة، أو رُغاية، أو رِغاوة، كلها صحيحة- فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإناء اللبن، فقال: أشربتم شرابكم الليلة؟ قال: قلت: يا رسول الله! اشرب -ما أجاب، هرب من الجواب- فشرب ثم ناولني، فقلت: يا رسول الله! اشرب، فشرب ثم ناولني، فلما عرفت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد روي وفي رواية: فقلت: اشرب يا رسول الله! فشرب عليه الصلاة والسلام حتى تضلع صلى الله عليه وسلم، فلما عرفت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد روي وأصبت دعوته: اللهم أطعم من أطعمني، واسق من سقاني، ضحكت حتى استلقيت على الأرض من الضحك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إحدى سوءاتك يا مقداد! -أكيد أنك فعلت سوءةً من الفعلات، هذه الضحكة ما وراءها إلا فعلة فعلتها وسوءة أقدمت عليها، فما هي؟ - قال: فقلت: يا رسول الله! كان من أمري كذا وكذا وفي رواية: فقال: ما الخبر؟ فأخبرته، فقال صلى الله عليه وسلم: هذه بركة وفي رواية: ما هذه إلا رحمةٌ من الله، أفلا كنت آذنتني فنوقظ صاحبينا فيصيبان منها؟ فقلت: والذي بعثك بالحق ما أبالي إذا أصبتَها وأصبتُها معك من أصابها من الناس) بعدما أصابتني البركة الآن وأصابتني دعوتك لا أبالي بعد ذلك شرب من شرب.