[الفوائد المنتقاة من قصة إسلام أبي ذر]
هذه القصة فيها عدد من الفوائد:- أولاً: أن الإنسان يجب عليه أن يبحث عن الحق، ولابد أن يكون هدف الإنسان دائماً البحث عن الحق، سواء في قضية كبيرة مثل الدين، أو في مسألة فقهية فرعية؛ لأن البحث عن الحق هو ديدن المؤمن، ولذلك ترى الكفار الذين يسلمون؛ عددٌ منهم يكونون من الباحثين عن الحق، يقارن بين الأديان ويسأل، ويكون أصلا ًهو يبحث عن الحق، فعندما يقع على دين الإسلام يلتزم به؛ لأنه يراه هو الحق؛ لأن هذا الدين موافق للفطرة.
ثانياً: أن الإنسان في سبيل بحثه عن الحق عليه أن يتحمل المشاق، أبو ذر رضي الله عنه أرسل أخاه أولاً وثانياً ثم ذهب بنفسه وتزود وتعرض لمشاق، وجلس غريباً في مكة ثلاثين يوماً ليس عنده طعام؛ من أجل البحث عن الحق، فالبحث عن الحق يجشم الإنسان المشاق.
ثالثاً: أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم حق يدخل القلب؛ ولذلك فإن أخا أبي ذر لما سمعه عرف أنه الحق وقال: أنا أعرف الكهانة وأعرف الشعر لا هو كاهن ولا شاعر مستحيل! رابعاً: أن الداعية إلى الحق يحرص أعداء الإسلام على تشويه سمعته، لا حظ معي لما سأل أبو ذر أخاه: ماذا يقولون عنه؟ ماذا قال؟ قال: يقولون: شاعر وكاهن وساحر، وقاموس الشتائم عندهم فيه إضافات وقالوا: به جنة، أي: فيه جني، وقالوا: مُعَلَّم، أي: واحد علمه.
ولذلك رد الله سبحانه وتعالى عليهم في القرآن عندما قالوا: محمد يختلف إلى نجار رومي بـ مكة؛ فيعلمه هذا القرآن ويخرج علينا يقوله.
كان هناك نجار رومي نصراني بـ مكة قالوا: إذاً عرفنا مصدر هذا القرآن وهذه السور، فهو يتردد على هذا النجار النصراني الرومي ويأخذ عنه السور، ثم يعلنوها لنا.
فقال الله في القرآن -رد عجيب مفحم- قال: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:١٠٣] قال: هذا النصراني الرومي الذي تتكلمون عنه في مكة أعجمي، رومي، وهذا القرآن لسان عربي مبين، كيف يكون اللسان العربي المبين من الرومي النصراني؟ ولذلك بهتوا؛ لأن السور كانت تنزل رداً على الكفار.
فإذاً: لا بد أن يتحمل الداعية إلى الله تشويه سمعته، والله سبحانه وتعالى قال: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً} [آل عمران:١٨٦] هذه سنة الله في ابتلاء أهل الحق لا بد أن تشوه سمعتهم، لابد أن يقال عنهم: فيهم جنون تطرف إرهاب فيهم وفيهم، لا بد أن يقال عنهم ما يشوه سمعتهم، وأعداء الإسلام يركزون على هذا لماذا؟ لكي ينفروا الناس من الدعاة إلى الله وأهل الخير والحق، والعلم، يقولون عنهم: متزمت رجعي متخلف يعيش في العقلية الأولى مجنون وهكذا من الألفاظ الكثيرة الموجودة في القاموس، التي يخرجون بها يومياً في وصف أهل الحق وأهل الدين وأهل الإسلام.
فلا تجد متمسكاً بالدين، إلا ولا بد أن يهاجم، وتشوه سمعته على وجه العموم وعلى وجه الخصوص، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم وهو أفضل الخلق تعرض لهذا، فما بالك بمن هو أقل منه؟! سبحان الله!! يقولون: عنه الصادق الأمين، وإذا اختلفوا في شيء رجعوا إليه، ومن عنده أمانة يخشى عليها وضعها عنده، يقولون: الصادق الأمين يُوحى إليه، يخرج على الصفا يا بني فلان يا بني فلان، ثم يجتمعون إليه، يقول: إني نذيرٌ لكم بين يدي عذابٍ شديد فيقولون له: كذاب، ساحر، مجنون، كاهن، بالأمس تقولون عنه: الصادق الأمين، اليوم فجأة انقلبت القضية وصار عندكم كذاباً ومجنوناً وساحراً وكاهناً ومُعَلَّماً وبه جنة وو إلخ.
إذاً: لا بد أن يُعلم أن الشخص الذي يسلك طريق الحق لا بد أن يؤذى؛ لأن هذه سنة الله تعالى في ابتلاء أهل الحق.
خامساً: أن الإنسان عليه أن يتقصى الحق بنفسه ولا يركن إلى الآخرين ليأتوه بالأخبار، لأن الأخبار قد تتعرض للتحريف أو للتغيير، أو أن الشخص الذي أرسلته لا يكون بتلك الحكمة فلذلك:
ما حك جلدك مثل ظفرك فتول أنت جميع أمرك
وبالذات في قضية معرفة حقيقة الدين، بعض الناس يعتمدون على الآخرين في جلب الفتاوى، وقد يكون الواسطة غير ضابط فيأتيه بفتوى خطأ، هذه فتوى ودين فعليه بأن يضبط الكلام بنفسه، ويطلب علو السند ويذهب هو بنفسه للسماع من الشيخ أو السؤال.
أما أن تقول فلان عن فلان عن فلان، وهذا فلان عن فلان مثل ما قال أهل الحديث: إذا كان الرواة ممن يلحنون صار الحديث بالفارسية، أي: إذا صار الراوي لحاناً، لحان: أي: يخطئ بالكلام، صار الحديث بالفارسية؛ لأن كل واحد يحرف قليلاً، حتى يصل الكلام في آخر الأمر، كلاماً غريباً جداً، ولذلك تقصي الحقائق يكون من الشخص نفسه.
سادساً: فطنة أبي ذر رضي الله عنه في أنه لم يسأل عن النبي عليه الصلاة والسلام مباشرة، وإنما انتظر ليتعرف عليه من بعيد، وتقدم ما في هذا من فائدة.
سابعاً: حرص علي رضي الله عنه على تسقط الأخبار والتقاط هؤلاء القادمين؛ لإيصالهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لدعوتهم إلى الله.
ثامناً: فطنة علي رضي الله عنه لما قال: إن شعرت بشيء أو أمر مريب قمت كأني أصلح نعلي أو أريق الماء حتى تعلم أنت أن هناك خطراً أو أن هناك شيئاً غير عادي؛ فنتوقف عما كنا بصدده.
وتاسعاً: أن الإنسان إذا أراد أن يستخرج الشيء المخبوء فإنه يُعرِض ولا يأتي بالصراحة، ربما تريب الشخص الآخر، ولذلك قال: أما آن للرجل أن يعلم منزله؟ عرض تعريضاً لطيفاً حتى يستخرج به ما عند الآخر.
عاشراً: أن الإنسان إذا أراد أن يأخذ الشيء على وجه الحقيقة أخذ العهد والميثاق، فأنت إذا أردت أن تعرف الكلام على وجه الصحة لو قلت للآخر تعطيني العهد والميثاق وتعاهدني بالله أن تخبرني بالحقيقة، يكون هذا أقرب إلى معرفة الصدق؛ لأن الشخص الآخر قد يكون فيه شيءٌ من الانحراف، فيذكره عهد الله بالأمر ويغلُظ عليه الشيء ويثقل عليه عهد الله والميثاق؛ فيرجع، لكن لو قال له مباشرة: أعطني الحقيقة ربما لا يعطيه، لكن لو قال: أخذت عليك عهد الله وميثاقه أن تخبرني بالحقيقة يكون أقرب إلى معرفة الحقيقة.
الحادي عشر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان رفيقاً بأصحابه، أي: لما عرف أن أبا ذر جلس شهراً أظهر التأسف لحاله وأظهر التلطف به.
الثاني عشر: كرم الصديق، لأنه عرض وقال: يا رسول الله! أعطني إياه ضيفاً وأطعمه من زبيب الطائف، وكان طعاماً نفيساً بـ مكة آن ذاك.
الثالث عشر: أن إكرام الداخلين الجدد في الإسلام مما يثبتهم على الدين، مثلاً: موظف في الشركة معك أو أحد العمال أسلم حديثاً فينبغي أن تتخطفه نفوس المؤمنين، فكل واحد يعزمه من جهة يقول: تعال عندي وأنت تعال عندي وأنت المرة التي بعدها عندي، عندما يحس الشخص المسلم الجديد أن هناك إخوان صدق له وكل واحد يريد إكرامه من جهة يعظم الدين في نفسه، وتزداد رغبته فيه وتمسكه به.
ولذلك ينبغي أن نكرم المسلمين الجدد، إذا سمعنا بمسلم جديد من هؤلاء سواء فلبيني أو سرلانكي أو أمريكي أو من أي جنسية أسلم، نحاول أن نكرمه كل واحد يدعوه يوماً بالذات الآن في رمضان، كل واحد يدعوه يوماً وهذا موسم، الآن يقبلون على الإسلام؛ لأنهم يتأثرون بالصيام ويرون من أهل البيوت ومن بعض المسلمين من مظاهر الالتزام بالإسلام في شهر الصيام فيُسلم عدد أكبر من الكفار في شهر رمضان، وبالتجربة عدد المقبلين على الإسلام أكثر من غيره، الكفار لما يرون المسلمين في هذه العبادة وهذا الجو الإيماني تزداد رغبتهم في الإسلام ويدخلون فيه فواجبنا أن نكرمهم.
الرابع عشر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على توزيع الدعاة في الجزيرة، وألا يكون كل الدعاة متركزين في مكة؛ لأن من المصلحة أن ينتشر الدين في الجزيرة، وأن يكون هناك بُعد، وأن يكون هناك عمق إسلامي في القبائل، بنو غفار فيهم مسلمون.
الطفيل بن عمرو الدوسي يذهب إلى قومه بني دوس يدعوهم إلى الله، أتى بثمانين بيتاً من دوس أسلموا.
أبو ذر الغفاري ذهب يدعو غفاراً فأسلم نصف القوم.
ومن حكمة النبي عليه الصلاة والسلام أن ليس كل من جاء وأسلم بـ مكة من القبائل الأخرى يقول له: اجلس بـ مكة مكان الاضطهاد والمحنة، لا.
بل كان يقول: اذهب إلى قومك، وأنت اذهب إلى قومك، وفي هذا توزيع الدعاة وهذه سياسة من النبي عليه الصلاة والسلام في غاية الحكمة والحصافة صلى الله عليه وسلم حتى ينتشر الدين في الجزيرة ويعم.
وكذلك الآن لو جاءنا أناس هنا وأسلموا وحسن إسلامهم من الحكمة أن نقول: ارجعوا إلى قومكم؛ لأن الدين إنما ينتشر بالدعاة، ما الذي نشر الإسلام في أصقاع العالم؟ فلم تصل إليها جيوش المسلمين، إندونيسيا أكبر بلد فيه تعداد مسلمين في العالم أسلموا بسبب إرسال الدعاة المسلمين، أو التجار المسلمين الذين نشروا الإسلام في تلك البلدان، وأحد التجار المسلمين كان قد ذهب في الدعوة إلى الله في بلد ففتح دكاناً فيها، في قرية من قرى الهند فصار يداين الناس ويعاملهم بالحسنى والذي عنده ضائقة ييسر ويضع عن هذا ويؤجل هذا وهذا فقير يعطف عليه، فكسب شعبية بين الناس فبعد ذلك لما أحس أنهم قد أحبوه بدأ يدعوهم إلى الإسلام فأسلم على يديه عدد من الناس، فلما أراد عظيم تلك القرية أن يخرجه منها قام أهل البلد عليه وخلعوه، وصار هذا مكانه، فيمكن للإنسان بحكمته بالدعوة إلى الله أن يكون له مجال عظيم في التأثير في الخلق.
وإرسال أبي ذر إلى قومه من باب نشر الدعوة، وحتى لو قضي على الدعوة في مكة يكون هناك في الأرض مسلمون آخرون يقومون بالواجب ونشر الدين، وهذا من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم.
الخامس عشر: جرأة