[أمثلة في التورية]
من الأمثلة مثلاً: لما وطئ عبد الله بن رواحة جاريته، وعنده زوجة شديدة الغيرة، فلما وطئ جاريته رأته امرأته فأخذت السكين وجاءته، فوجدته قد قضى حاجته، فقالت: لو رأيتك حيث كنت لَوَجأتُ بها في عنقك، فقال: ما فعلت! فقالت: إن كنت صادقاً فاقرأ القرآن تعرف أن الجنب لا يقرأ القرآن- فقال:
شهدتُ بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طافٍ وفوق العرش رب العالمينا
وتحمله ملائكة شداد ملائكة الإله مسومينا
فقالت: آمنت بكتاب الله وكذَّبتُ بصري، وهذه طبعاً القصة في إسنادها شيء، ولها طرق لكنها لا تخلوا من ضعف، وهذه المرأة يمكن أن يكون فيها غفلة، لأنها لم تعرف أن تميز بين الشعر والقرآن.
لكن نأخذ أمثلة أخرى: دُعِي أبو هريرة إلى طعام فقال: (إني صائم -ما أراد أن يأكل من هذا الطعام- فرأوه يأكل بعد ذلك، فقالوا: ألم تقل إنك صائم؟ قال: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر، فأنا أصوم ثلاثة أيام من كل شهر).
وكان محمد بن سيرين إذا اقتضاه غريم ولا شيء معه، مثلاً: أعطاه رجل مالاً وجاء يريد المال، وهو مسكين ليس عنده شيء، وهو لا يريد أن يُذهب أموال الناس، يقول: [أعطيك في أحد اليومين إن شاء الله] فالسامع يفهم؟ أنه يطيه المال غداً أو بعده، وهو يقصد يومي الدنيا والآخرة، أحد اليومين، إما في الدنيا أعطيك، أو في الآخرة تأخذه.
وكذلك أبو بكر الصديق لما هاجر مع النبي عليه الصلاة والسلام وسئل: (من هذا الذي معك؟ -كانت خطورة أن يخبر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه معه- فقال: هذا رجلٌ يهديني الطريق) ماذا يقصد؟ ماذا يفهم العربي والبدوي في الصحراء؟ أي: هذا دليل، أنا مسافر وهذا دليل في السفر، بينما هو قصد (هذا رجلٌ يهديني الطريق) يعني: طريق الإسلام طريق الخير؛ حِفاظاً على حياة النبي عليه الصلاة والسلام، هذه تورية واضحة ومشروعة، ما أراد أن يكذب لم يقل: هذا فلان الفلاني، جاء بأي اسم كذب، قال: (هذا رجلٌ يهديني الطريق).
وقال حماد عن إبراهيم أنه سئل عن رجل أخذه رجل فقال: إن لي عندك حقاً، فقال: لا.
فقال: احلف بالمشي إلى بيت الله فقال له إبراهيم: احلف بالمشي إلى بيت الله واعنِ مسجد حيك؛ لأن المساجد كلها بيوت الله، وذاك سيفهم بيت الله أي: بيت الله الحرام.
وذكر هشام بن حسان، عن ابن سيرين، أن رجلاً كان يُصِيْب بالعين فرأى بغلة شريح فأراد أن يعينها، كان شريح ذكي رحمه الله وكان عنده بغله حسنه، فرأها أحد العيانين الحساد الذي كان إذا أصاب شيئاً بالعين لا يخطئ كأشعة الليزر، وهذه نوعية موجودة في البشر، فلما رأى بغلة شريح أراد أن يعينها، ففطن له شريح قبل أن يعينها فقال: إنها إذا ربضت لم تقم حتى تُقَام -قال: هذه إذا جلست لا تقوم حتى تقام- قال الرجل: أفٍ أفٍ.
فزهد العائن فيها فما حسدها، وإنما أراد أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقيمها، أي: لا تقوم حتى يقيمها الله سبحانه وتعالى، كما يأمر كل شيء فيكون.
وكذلك قال أبو عوانة، عن أبي مسكين: كنت عند إبراهيم وامرأته تعاتبه في جارية له - إبراهيم النخعي كان عنده جارية والمرأة تغار من الجارية جداً- وكان بيد إبراهيم مروحة يروح بها في الصيف فلما جاءت المرأة، وأكثرت عليه الكلام عند الناس والضيوف، قال: أشهدكم أنها لها -لتسكيت المرأة- فلما خرجنا قال: علام شهدتم؟ قلنا: شهدنا أنك جعلت الجارية لها، قال: لا، أما رأيتموني أشير إلى المروحة، إنما قلت: اشهدوا أنها لها، وأنا أعني المروحة.
وكان حماد رحمه الله إذا جاءه من لا يريد الاجتماع به من بعض مضيعي الأوقات كان يضع يده على ضرسه، ويقول: ضرسي ضرسي ويمشي، ضرسي ضرسي وهو لا يكذب؛ لأن كل واحد عنده ضرس.
وأُحْضِر الثوري إلى مجلس المهدي، فأراد أن يقوم، وكان المهدي متمسكاً به يريد أن يجلس عنده، والثوري رحمه الله يريد الذهاب، فمُنع من القيام فحلف بالله أنه يعود، وعلى هذا الأساس تركه الخليفة يمشي، فترك نعله ومشى ثم رجع فلبس نعله وأخذها ولم يعد، فقال المهدي: ألم يحلف أنه يعود؟ فقالوا: إنه عاد فأخذ نعله.
وكان المروزي من أذكى أصحاب الإمام أحمد وأنجبهم، فجاء واحد يسأل عن المروزي يريد أن يأخذه من مجلس أحمد فأراد الإمام أحمد ألا تفوت المروزي الفائدة من الدرس، فقال الرجل: المروزي موجود عندك؟ فوضع أحمد إصبعه في كفه وقال للسائل ينظر إليه: ليس المروزي هاهنا، وما يفعل المروزي هاهنا؟ يقصد أحمد رحمه الله في كفه ليس المروزي هاهنا، ما يفعل المروزي هاهنا؟ وهذا كله من أجل التوقي من الكذب وعدم الوقوع فيه.
فهذه أمثلة على التورية نلاحظ منها أن الذين فعلوها كانوا يقصدون إما جبر خاطر، أو تحقيق مصلحة مثلاً، أو تخلصاً من موقف محرج، وحفاظاً على وقتهم.
ولذلك فإن هذه التورية مباحة وتغني عن الكذب، إذا احتاج الإنسان أن يتكلم بكلام لا يكذب يمكن أن يستخدم التورية ويحصل على مقصودة.
أما استخدام التورية لبيان المهارة وخداع الناس، لكي يثبت الإنسان أنه أذكى من الآخرين، فهذا مزلق شيطاني، وتجد بعض الناس يفعلون التورية بحاجة وبغير حاجة، ولذلك يقعون في الكذب.
وكذلك فإن كثرة استخدام التورية تؤدي إلى الوقوع في الكذب في النهاية، ولذلك فإننا عندما نتكلم عن التورية لا نقصد التوسع بها وأن يجرب الإنسان مهاراته على الآخرين، إنما نقصد أنك إذا احتجت أن تتكلم بكلام تتخلص به من موقف فهناك مجالات أخرى غير الكذب وهي التورية.
هذا ما تيسر ذكره من فوائد هذه القصة.
والله تعالى أعلم.