[إبراهيم عليه السلام وأدب الضيافة]
وقد ضرب إبراهيم الخليل صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم المثل العظيم في إكرام الضيف، فقد جاءه ضيف، قال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [الذاريات:٢٤ - ٢٨].
هذه الآيات اشتملت على آداب الضيافة مِن قبل إبراهيم الخليل عليه السلام؛ فتعالَوا بنا نُنْهِي هذا الموضوع باستعراض بعض الفوائد في الضيافة التي حصلت من إبراهيم الخليل عليه السلام:- أولاً: أنه قرَّب الطعام إليهم، ولم يأمرهم أن يتقدموا إلى الطعام وهذا واضح من قوله تعالى: {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ} [الذاريات:٢٧] حتى يكفيهم مئونة الإتيان إلى الطعام، وهو من مزيد التكريم، أن تقدم الطعام للضيف؛ لكن مع كثرة الأطعمة التي نضعها اليوم، يمكن أن يجلس الواحد نصف ساعة وهو يقدم الأطعمة إلى الضيف، ولذلك لو أنه جهَّز السُّفْرَة ثم قربهم إليها، فلا بأس بذلك.
ثانياً: من آداب الضيافة: السرعة في الإتيان بالطعام أخذناه من قوله تعالى: {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:٢٦] (فَجَاءَ) بحرف الفاء، ولم يقل: ثم جاء، ولكن (فجاء).
ثالثاً: إحضار الطعام بدون إعلامهم أو بدون استئذانهم لئلا يُحرَجوا وبعض الناس يقول: هل نأتي لكم بغداء؟! معنى ذلك أنه لا يريد أن يأتي لهم بشيء؛ لأنه لو كان صادقاً لأتى بالغداء قبل أن يستأذنهم أو يستأمرهم، وهكذا فعل إبراهيم الخليل؛ فإن الله تعالى قال عنه: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ} [الذاريات:٢٦] و (راغَ) أي: ذهب خفيةً لئلا يحرجهم، وما أحسوا به لما ذهب من الباب، فانسل خفيةً وأتاهم بالطعام.
رابعاً: اختيار أحسن الطعام قال تعالى: {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:٢٦] والآية الثانية: {بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود:٦٩] والحنيذ هو اللحم المشوي على الرضخ، والرضخ هي الحجارة المحمَّاة، وهو ألذ الطعام وأصحُّه، فاللحم المشوي على الحجارة المحماة أصح شيء، وهو في القمة واسأل به خبيراً! وليس ذلك أنا، فإني لم أشوِ على الحجارة أبداً، لكن المقصود أنك تسأل الذين يشوُون على الحجارة، ويقال: إن طعام الكبراء من هذا النوع، أكثره على الحجارة المحمَّاة، فهو جيد من ناحية الصحة، ومن ناحية اللذة والنضج على الحجارة.
سادساً: أسلوب العرض جميل قال تعالى: {قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:٢٧] لما قربه إليهم ما مدوا أيديهم {قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:٢٧] أسلوب في غاية اللطف.
سابعاً: حُسن الاستقبال فإبراهيم كان بابه مفتوحاً {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ} [الذاريات:٢٥] والكريم دائماً بابه مفتوح.
ثامناً: أنهم لَمَّا قالوا له: سَلاماً، قَالَ: سَلامٌ سلاماً: جملة فعلية، وسلامٌ: جملة اسمية.
سلاماً: مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره نسلم سلاماً.
سلامٌ: خبر {سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ} [الذاريات:٢٥] فهي جملة اسمية، والجملة الاسمية تفيد استقرار المعنى وثباته أكثر مما تفيده الجملة الفعلية {فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ} [الذاريات:٢٥].
قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:٨٦].
تاسعاً: لم يسألهم عن أسمائهم، إنما أشعرهم بأن قال: {سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ} [الذاريات:٢٥] أي: أهلاً بالضيوف الذين لا أعرفهم، فهو يرحب بمن يعرف وبمن لا يعرف، وهذا من كرمه صلى الله عليه وسلم، فهو الذي يكرم الجميع، فقد جاء بعجلٍ حنيذ لأناس لا يعرفهم، وهذا من إكرام أبي الأنبياء عليه السلام.
عاشراً: أن الإنسان يراقب أحوال الضيف حتى يأتيه أو يعينه على المقصود قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود:٧٠] وفي الآية الأخرى: {قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:٢٧] فإن الإنسان يراعي أحوال الضيف: ماذا ينقصه؟ ربما ينقصه ماء، ربما ينقصه شيء؛ والآن بعض الناس يضعون السفرة ويمشون، ولا يدري عن الضيوف ماذا ينقصهم، وماذا يحتاجون، فتفقُّد أحوال الضيوف على المائدة من إكرام الضيوف.
الحادي عشر: المبالغة ذَبَح لهم عجلاً، لم يذبح لهم ثوراً، أو جاموساً قاسي اللحم، إنما ذبح العجل الذي هو صغار البقر، وهذا يكون لحمه طرياً طيباً.
الثاني عشر: من إكرام الضيف أن الإنسان يحادثه:- يحادث ضيفه؛ ليحصل الاستئناس، ولذلك رخص النبي صلى الله عليه وسلم في السمر للمصلي والمسافر والذي عنده ضيف، لا بأس أن يسمر معه الإنسان في الليل، وإلا فإن الأصل أن بعد العشاء نوم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كره السهر، إلا لمصلٍّ، أو مسافر، أو صاحب ضيف يسمر معه ويحادثه.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.