[الفوائد المنتقاة من حديث المقداد]
١ - هذا الحديث -ولا شك- فيه بركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم.
٢ - وفيه: معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي: أن هذه الأعنز كانت فارغة قد حلبت، والآن بعد فترة يسيرة جداً رجع اللبن إليها أكثر مما كان، فإحداث اللبن في غير وقته على خلاف العادة؛ هذه معجزة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، وهي التي قصدها بقوله: (ما هذه إلا رحمةٌ من الله) وفي رواية قال: (هذه بركة) وهذا من تواضعه عليه الصلاة والسلام، لأنه رد الأمر إلى الله، لم يقل: هذا بسببي، وهذا بدعائي، وإنما قال: (ما هذه إلا رحمةٌ من الله) ولذلك إذا حصل للإنسان كرامة، أو حصل له شيء وفضل، فلا يقل: هذا بعرقي بذكائي بجهدي، وإنما يقول: هذا من الله وهذه فائدة عظيمة؛ أن أي فضل يحدث لك ونعمة تحدث لك، انسبها إلى المنعم، وقل: هذه من الله، وهذا من شكر النعمة؛ لأن شكر النعمة له صور كثيرة: أ- فمن شكر النعمة ألا تجحدها.
ب- ومن شكر النعمة أن تنسبها إلى الله.
جـ- ومن شكر النعمة أن تستخدم في طاعة الله.
د- ومن شكر النعمة أن تحدث بها ولا تكتمها {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:١١].
فشكر النعمة لها عدة طرق، وهذا منها: نسبة النعمة إلى الله سبحانه وتعالى.
٣ - فيه: ما كان عليه الصحابة -رضوان الله عليهم- من الجهد والمشقة والجوع، ومع ذلك تحملوا ما تحملوا في سبيل الله، لم يذهبوا يشتغلوا بالتجارة ويتركوا الدين والدعوة والعلم، وإنما كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم.
٤ - وفيه: حِلم النبي صلى الله عليه وسلم، وحسن خلقه، وكرم نفسه، وصبره.
٥_ وفيه: إغضاؤه عن حقوقه، لم يقل: أين نصيبي من اللبن؟ بل قال: أشربتم شرابكم الليلة؟ ولو كان واحداً منا لقال: أين نصيبي؟ من الذي أخذ نصيبي؟ وربما سب ودعا على الذي أخذ نصيبه، كما يفعل بعض الناس إذا ذهب نصيبه؛ يدعو ألا يبارك لمن أخذه ولمن شربه، فمما نستفيد: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان عنده كرم نفس وصبر، وكان يتغاضى عن حقوقه.
٦ - وفيه: الدعاء للمحسن والخادم، ولمن سيفعل خيراً فإن النبي عليه الصلاة والسلام لما رأى الإناء فارغاً، قال: (اللهم أطعم من أطعمني، واسق من سقاني) وهذه الدعوة لمن سيطعمه ولمن سيسقيه، ولأنه ما رأى اللبن، فقال: (اللهم أطعم من أطعمني، واسق من سقاني) لعله يأتي أحد يطعمه ويسقيه، فدعا له، وهذا دعاء لمن سيفعل له معروفاً.
إذاً: الدعاء يكون لمن صنع لك المعروف في الماضي، أو لمن يصنع لك الآن، لكن هذا دعاء عجيب، هذا دعاء لمن سيصنع له معروفاً في المستقبل (اللهم أطعم من أطعمني، واسق من سقاني) في المستقبل.
لذلك لو قال أحد الناس: ما هو المبرر؟ لماذا أراد المقداد أن يذبح الأعنز؟ لأنه لما سمع الدعوة: (اللهم أطعم من أطعمني) ذهب يذبح ليطعم النبي عليه الصلاة والسلام، وفسر لي شيخنا عبد العزيز هذه اللفظة: بأن المقداد لعله فعلها ليطعم النبي عليه الصلاة والسلام؛ متأولاً راجياً بركة الدعاء لما قال: (اللهم أطعم من أطعمني، واسق من سقاني).
٧ - وفيه: أن الإنسان إذا جاء إلى مجموعة ظاهرهم النوم، ولكن يحتمل أن بعضهم ما ناموا بعد، فإن طريقة السلام حينئذٍ أن يسلم بصوت متوسط لا يوقظ النائم ويسمع اليقظان حتى يرد السلام، وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
٨ - وفيه: إشفاق الصحابي على نفسه، وخوف الصحابي على نفسه من أن يدعو عليه النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه تسبب له في شيء من الأذى في حرمانه من نصيبه وإبقائه على الجوع، ولذلك لما علم المقداد أن النبي عليه الصلاة والسلام قد روي وأجيبت دعوته من شدة الفرح بزوال الغم الذي كان في صدره؛ ضحك حتى سقط إلى الأرض من كثرة ضحكه، لما ذهب من حزنه، وانقلاب هذا الحزن فرحاً وسروراً بشرب النبي عليه الصلاة والسلام، وشبع النبي عليه الصلاة والسلام، ودعاء النبي عليه الصلاة والسلام، وإجابة دعاء النبي عليه الصلاة والسلام، وأن ذلك جرى على يد المقداد؛ لأنه هو الذي جاء إلى الأعنز فوجدها حفلاً، وهو الذي كان سبباً عندما شرب اللبن.
٩ - وفيه: أن الشيطان يسول للإنسان فعل المعصية ثم يندمه عليها الشيطان لا يكتفي بأن يوقع الإنسان في المعصية، بل بعدما يحدث كل شيء يأتي الشيطان ويزيد الطين بلةً، قال تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:٢٢] فالشيطان لا يترك الإنسان حتى يقع في المعصية، وإذا وقع في المعصية كرَّ عليه مرة أخرى بالتعرض له بسيئات وسلبيات المعصية؛ حتى يركب الإنسان الهم والغم والحزن نتيجة ما حصل، فلا يكون عليه فقط سوء المعصية، وإنما عليه الهم والغم الذي حصل بعد ذلك.
١٠ - وفيه: أن المقداد عزا ما حصل إلى الشيطان وإلى تسويل نفسه، وأن الشيطان يضع الخطة، فإنه قال له: النبي صلى الله عليه وسلم عنده أصحاب، وعنده أكل، فما تأخر إلا وقد شرب وشبع وأكل، ولا زال بـ المقداد حتى جعله يشرب نصيب النبي عليه الصلاة والسلام.
١١ - وفيه: تلطف النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه وفطنته وفراسته؛ فإنه عندما نظر إلى المقداد وهو يضحك عرف أن في أمره شيئاً، وقال: (إحدى سوءاتك يا مقداد).
١٢ - وفيه: أن الإنسان إذا حضره خير لا ينسى أصحابه، ولا ينسى جيرانه؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال للمقداد: (أفلا كنت آذنتني فنوقظ صاحبينا فيصيبان منها)، وقال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) وهكذا النبي صلى الله عليه وسلم تمنى أن يستيقظ الآخران ليشربا أيضاً.
١٣ - وفيه: تقاسم ما حضر مع الفقراء، فالنبي عليه الصلاة والسلام لما وجد الأعنز تقاسم حلبها مع هؤلاء الثلاثة الفقراء، والاقتسام هذا يجعل فيها بركةً وأجراً، وأن الشيء إذا كان محدوداً فلا بأس أن يعطى كل واحد قسطاً، يجعل له نصيب حتى لا يتعدى على نصيب الآخر (جزأ ألبانها بيننا أرباعاً) يجعل لكل واحد ربع خاص به، فيعرف ما هو له فيشربه ولا يتعدى على نصيب غيره.
١٤ - وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتى المسجد صلى وهكذا لما دخل صلى ثم جاء إلى الشراب.
١٥ - وفيه: إكرام الصحابة والأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم بما كانوا يتحفونه به ويطعمونه ويسقونه رضي الله عنهم، وهذا من إكرامهم للنبي عليه الصلاة والسلام، وهذا من الأسباب التي حصل لهم بها رضوان الله تعالى عليهم.
١٦ - وفيه: أن الإنسان إذا جاع وبلغ الجوع به غايته، فلا بأس أن يعرض نفسه على من يطعمه، وأن ذلك لا يجعله يأثم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حرَّم المسألة إلا لصاحب الحاجة، وأخبر أن الذي يسأل الناس من غير حاجة إنما يسأله خدوشاً في وجهه يوم القيامة، تأتي المسألة يوم القيامة في وجه صاحبها خدوشاً، وهذا إذا سأل وله ما يغنيه، أما هؤلاء الصحابة فإن الجوع بلغ بهم أن ذهبت أسماعهم وأبصارهم، اختلت الرؤية والسمع من شدة الجوع.
١٧ - وفيه: حمد الله سبحانه وتعالى على النعمة، وأن الإنسان إذا كان به جوع فلا بأس أن يزداد من الطعام، كما يحمل عليه الشبع الذي حصل في حديث أبي هريرة الذي سبق ذكره.
١٨ - وفيه: أن دعوة النبي عليه الصلاة والسلام مستجابة.
هذه بعض ما تضمنته هذه القصة اللطيفة من الفوائد.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من أهل الآخرة، وأن يجعلنا ممن يستعين بالدنيا على مرضاة الله عز وجل.